مقدمة

حين علمت بوفاة رفيق غربتي الطويلة الشاعر نعيم خوري، أحسست أن الشعر قد تخلّى عن كل مقوّماته.. وأن اللغة العربيّة بدأت تضمحلّ بعد ازدهار.. وأن الأدب المهجري أطلق على نفسه رصاصة الرحمةّ. فنعيم كان عميدنا جميعاً، وسيبقى سيّد الحرف إلى نهاية الغربة.
وأذكر يوم زرته إثر رجوعي من لبنان، قبيل وفاته بأسابيع، كيف تأهّل بي، كما لـم يتأهّل من قبل، وكيف تمسّك ببقائي معه كما لـم يتمسّك من قبل. كان يريدني أن أبقى معه.. وأن لا تنتهي دردشتنا حول الأوضاع الأدبيّة والاقتصادية والسياسية في الوطن الأم. وكنت كلّما وقفت لوداعه، شدّني بقميصي قائلاً:
ـ أنا ما صدّقت شفتك كيف بدّي خلّيك تروح.. نشكر أللـه اللّي رجعت بخير تا شوفك.
وعندما قدّمت له (مسبحة الطقطق) التي جلبتها معي من لبنان هديّة له، قلّبها بين يديه وهو يقول:
ـ هيدي مسبحة حلوة.. رح زت مسبحتي وإتسلّى فيها.
وبالفعل حمل المسبحة وراح يطقطق بها ويكمل حديثه، وعيناه شاردتان إلى البعيد، وعيناي محدّقتان به بنهم واضح وبإعجاب شديد. فمنذ اللحظة التي أخبره بها الطبيب عن مرضه الفتّاك، لـم يفقد نعيم أعصابه أبداً، بل زادت بهجته، وقويت نبرة صوته، وتعملقت عزيمته.. وكأن الموت لا يعنيه.. أو أنه لـم يمر بقاموسه يوماً.. وصدّقوني، أنا المقرّب منه دائماً، باستثناء فجوة زمنية قصيرة رمتنا بها ثرثرات الحاقدين، أن موت رفيقة دربه فيكي قد أثّر به، وأتعب كاهله ، أكثر من خبر إصابته بسرطان الرئتين. موته لـم يعنِ له شيئاً، أمّا موت زوجته فقد عنى له الكثير.. ولهذا لـم يخف من الموت لأنه الطريق الأقرب للقائها.
وعندما همست بأذنه هذه العبارة:
ـ سامحني إذا غلطت معك.
إنتفض من مكانه، وعلت النهجة صدره وهو يصيح:
ـ مش وحدك اللي غلطت.. كلنا غلطنا.. بس بدّي ياك تحط براسك إنّو ما في حدا إخد محلّك بقلبي.. بيكفي إنّي هديتك أحلى القصايد.
ـ تا موت مش رح إنسى محبّتك لي.. والقصايد اللي هديتني ياها بدّي إجمعها بكتاب يخلّدنا سوا.
ـ عجّل.. شو ناطر.. حابب شوف هالكتاب؟
الكتاب سيرى النّور يا نعيم.. وستكون، رغم رحيلك عنا، أول من سيراه، لأنني أقسمت أن لا يراه أحد قبلك.. فالنسخة الأولى منه سترمى على قبرك الطاهر مع قبلة شكر وصلاة محبّة وباقة أزهار.. ودمعة شعرية.
سأفتقدك يا صديقي الراحل الباقي، سأفتقد صوتك الجهوري، وسأحن ما حييت للعطف والتشجيع اللذين أغدقتهما عليّ طوال رحلتي مع الغربة. لقد كنت المدافع الأول عن أدبي.. والصديق الأول في حياتي.
أتطلّع بصورك الجميلة في مكتبي، فأحسبك تتأهّب لعناقي، تماماً كما كنت تفعل قبل الرحيل..
أقرأ مقالاتك وقصائدك الكثيرة التي كتبتها عنّي، وأدخلتني بها عالـم الكلمة السرمدي، فأحسبك تخاطبني بصوتك (الكوراني) الطالع من صدر استقبل الموت دون رعدة.
يا نمر الغربة الأسمر.. لن يطويك الردى، ولن تُذبل نضارتك سنواتُ الإبتعاد عنّا.
إنّك تعيش فينا.. تتنقّل معنا.. وتعظنا كي لا ننزلق نحو الغموض.
أيّها الواضح كالشمس.. الهادر كالزوبعة.. المنطلق كضحكات الأطفال.. والصامد كأطفال الحجارة.. إننا نحبّك.
أيها الشاعر الذي عشقته القصائد، وتهافتت نحوه القوافي.. قوّنا كي نستمر.
أيّها الناثر الذي غار من نثره الشعر، واستحمّت حوريّات الإبداع بحبر أقلامه.. هبنا مَلَكتك الأدبيّة لنبدع.
لقد كنت نعيمنا وستبقى.. فلا الوقت، ولا الحرف سيجيئان بنعيم خوري آخر.. فنـم قرير العين.. واحلـم بقصيدة جديدة، تخفّف من حرّ انتظارنا على قارعة الحياة.

شربل بعيني
**