عواصف 1

دانيال النبي يتوشّح بالرؤيا. ينفض غبار الأزمنة، يجلي صدأ الوثنيّة المدمّرة، وصوت الربّ يصرخ في البريّة، فيتحرّر الملكوت من قرصنة البرابرة ولوثة الفريسيين.
يوحنا فـم الذهب كان ـ منذ البدء الذي كان الكلمة ـ يتوهج بالحكمة، يحمل بشارة الخلاص، ورسالة المعلم إلى الكون، ينشر نور المعرفة في العالـم، يحوّل امتثال القطيع إلى إدراك فاقتناع فإيمان مطلق بإله واحد خالق السماء والأرض، وكل ما يرى وما لا يرى.
الخضر على صهوة. تشتعل الأرض من تحته. تتهيّب الشمس ظلاله. يسحق التنّين. يهدّىء اضطراب الأعصاب. يزرع الثقة في النفس. يقول للناس أنتم من أمة كم من تنين سحقت.
في طريقه إلى روما، ساور بطرس الشكّ فقرّر العودة، وإذا بصوت السيّد يصرخ: بطرس، يا بطرس، لا تصلبني مرّتين. أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي. وكانت الطريق، وقامت كنيسة اللـه بيتاً وملاذاً وهدى للخليقة.
وتطول المسالك وتتشعّب، ترتفع في التاريخ منائر، أو تنطرح على أرصفة الأزمنة أوكاراً للصوص. بين الفجر الذي أحرق العتمة وأول مدماك من عمارة الحضارة محطّات ليست من شغل القدر، بقدر ما هي من صناعة البشر. بعضها يدخل في مدار الرؤيا، وبعضها في نطاق التكهّن. أسهمت إلى حدّ بعيد في مواسـم الأمل والرجاء والحلم الإنساني، كما كانت سبباً في تقويض الناموس الذي منه وفيه ينشأ هيكل الألوهة. إنه من شأن اللـه أن يغفر للمسيئين إليه، وأن يسامح الأشرار، ويطلق سراح برابسة العصر. ولكنّه ليس من شأني أن أشارك في الصلاة مع العابثين بروح الغفران واستغلال هذه الروحيّة لزرع بذور النفور والشقاق، واستثمارها في ميادين الصغائر لباساً مزيّفاً للمؤمنين.
في هذه المرحلة الدقيقة من التاريخ، مرحلة يراهن فيها الكثيرون على الهوس والتزمت والضلال وهستيريا الغرائز، حتى حدود الزندقة، ويدخل معها الوعي في دوّامة الصراع مع الفراغ، حتّى ليبدو أن الطوفان لـم يعد بعيداً، وأن تدمير بابل الجديدة بات وشيكاً، في هذه المرحلة يطلّ علينا رجل دين ـ ولا كل الرجال ـ هو سيادة المطران عبده خليفة رئيس أساقفة أستراليا ونيوزيلندا للموارنة، من خلال ما قدّم مجموعة "أللـه ونقطة زيت" للشاعر شربل بعيني، وكأنه تجدّد الإيمان مع موعد القيامة المجيدة.
هذه ليست فقط توطئة ولا مقدّمة ولا دراسة لأربع وعشرين قصيدة. إنها سلوك رائد في الإيمان، ونهج في العبادة، ودستور حياة للذين يطلبون الحياة الراقية، يعبّر فيه سيادته عن انفتاح شامل على دقائق هذا الوجود، حتى إذا ما وعينا هذه الدقائق وعياً كليّاً واضحاً وصادقاً استطعنا اجتياز الأحداث، وتجاوزنا قطوع التجربة وما تجلبه من ويلات ومحن. هذا السلوك في الذاكرة سيلمع وينوّر، كما اللآلىء والآيات. وسيبقى له صدى، كما المزامير والتراتيل.
لنسمع:
"أن ينحرف الإنسان عن هدف اختطه لنفسه فهذه حريته"، احترام الحريّة الشخصيّة في الإنسان احتراماً ينذر: "لكن هذا الانحراف هو دينونته"، تقاليد الدين وشعائره هي في الممارسة العمليّة الصحيحة الأمينة في دلالاتها على رسالة الدين: "تقاليد الدين وشعائره هي بما تدل عليه التوجّه إلى عل، ولكن الدجّالين يضعون هذه الشعائر مقام اللـه خدعة للبسطاء في جمع المال الحرام.
"هذا المسيح الذي هو الكل لا يستحقّ أن يتنكّر له الناس"، نداء صارخ في البريّة. المسيح الذي هو الكل، هو في الكلّ ومن الكلّ وللكلّ، لا يجوز ادعاء الاستئثار به واحتكاره والمتاجرة باسمه.
ي الصحبة والإيمان والتسامح والغفران والتعالي على الجراح نتعرّف إلى المسيح. في الضغينة والحقد والكفر والتعصّب والاستغلال نتنكّر له وننكره ولو صاح الديك ثلاثين مرّة ثلاث مرّات.
"نميّز بين ما هو خرافة وما هو تعبير عن حقائق روحيّة". الغيبيّة لا قاعدة لها، إذن هي خرافة. والدين ليس بالاجتهادات الخرافيّة مهما زيَّنَّا لهذه الاجتهادات وروّجنا لها، لأن حياة الإنسان ليست في الغيب.
والحقائق الروحيّة في الدين، هي النور الهادي، درب الخلاص في التوجّه الأسمى المجرّد عن الأنانيّة والتسلّط والأثرة، والذي يستأصل الفضائل والقيم العليا.
"إذا كنت مؤمناً أعيش ديني وأتأمّل في كتبي، وأعمل جادّاً للوصول إلى كمال يشرحه ديني ويطلبه منّي، إذ ذاك أحترم دين الآخرين، وأتوصّل إلى محبّة الديانات الأخرى وأحترم وأقدّس مبادئها". هذا هو الطريق السليم القويم الأفضل فهم الخصائص الدينيّة وترجمتها على الأرض ـ نعيم الإنسان ـ ، وكل تأمل آخر في الدين هو عمليّة تشويه وتزييف لهذه الخصائص، تعطّل طاقة الإنسان، وتدمّر كيانه. وهذا الطريق وحده يقطع كل الطرق التي تؤدي إلى التنابذ والتناحر والاقتتال على السماء، والدعوة إلى اقتسام مملكة اللـه في عقليّة وثنيّة جامدة، لا تفقه معنى الدين، ولا تأتي على ذكر اللـه إلاّ باطلاً.
فاقرعي، اقرعي يا أجراس أورشليم، يا أجراس العودة إلى اللـه، إلى وجدان الإنسان وقلبه.
صدى لبنان ـ العدد 587 ـ 15 آذار 1988
**