عواصف 3

في هذه العواصف يعتذر نعيم من شربل بعيني بإباء ملفت، وبأسلوب نادر لا يماشيه أسلوب. إنه، عكس بعض المستأدبين، يعرف أن قيمة الأديب تكمن في مصداقيّته الشامخة، التي بها يعلو، وبمعونتها يمتشق سيف الكتابة.

احمل السلّم بالطول أو بالعرض، ما همّ، المطلوب أن تبقى سلّمك تتحرّك. واحمل صليبك وامشِ، أو توقّف على الرصيف، فإن صليبك لن يسقط عن كتفيك ما لـم تسقط كل خطاياك.
اكتب على ورق الورد، أو على ورق التين، أو على بساط الريح، كل الأوراق تتهاوى وتهرّ، إلاّ أوراق التاريخ، فهي، إلى الأبد، باقية.
قل الشعر الفصيح أو الدارج، المحكي أو المكتوب، المستحدث أو التقليدي، النازل من أزياء الواجهة، أو النازف من لهيب الجراح. إن كنت بائع فلافل أو ترمس أو بصل، أو كانت تلفّك اليزرة وأنت تعمل في الشورما بتراً وتقطيعاً. المهم أن يكون الشعر شعراً يضجّ فيه نبض الحياة، لا شعراً ينتظره الموت عند كلّ بوّابات الأرض.
قد يكون من يبيع البسطرما على قدر كبير من العفّة ولنظافة والألق الفكري، أمّا سعدان المواقف فليس له موقف. إقرأ الصفحة من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين، من فوق إلى تحت، أو من تحت إلى فوق، ليس من الضرورة أن يكون لك نهج محدّد، أبعد من النهج المعيّن تعيين الغاية من المكتوب، وفهم المضمون ووعيه على حقيقته، لا مسخه على الطريقة التي تتصوّرها أنت، أو صبغه باللون الذي تتوهّم.
تنطنط فوق كلّ كلمة تقرأ. أمحُ سطراً. أشطب صفحة. كل معلّبات الزمن لا تساوي نقطة على السطر، وكل ثرثرات المجالس لا توازي حرفاً يخرج كالسكين من القلب، وكل ذبذبات الأعصاب لا تستطيع أن تقطع أوتار قصيدة. أنت هو أنت. الشعر حياة الشاعر. الباقي التفاتات هامشيّة على الطريق.
القليل من الحريّة أفضل من الحرمان. الكثير من الدهشة يرطب الهواء بالعفونة والتراب بعار الانكسار، ولعل في ذلك كل انبهار بهلويّاتنا.
إن الذين، منذ أسبوع، توقّفوا عند هذه الزاوية، وخرجوا بانطباع مغبّش عن صداقتي لشربل بعيني، قد أساءوا إلى نفوسهم، وإلى قراءة التاريخ.
والذين اعتقدوا أن هناك فتوراً، أو خلافاً، أو مناخاً متوتراً بيني وبين شربل، قد أخطأوا مرّتين: الأولى، أن صداقتنا ليست بهذا الزهد، وليست جاذبيّة مصالح، فتشتد أو تتمطّى، أو تتراخى وفقاً لتيّارات الغرض وأهوائه الرخيصة. والثانية، أننا لا نلتصق بخلاف ـ إذا وجد ـ فنصبغ فكرنا وأدبنا. وشربل الذي كتب "ستوبه" قبل أن يكون فيما بيننا تعارف، ونشره في مجلّة "الوفاق"، على أثر صدمة نفسيّة انتابته من الذين يجيدون فن الاستدراج والانتهاز والاستثمار، عاد إلى عتيقه، يجدّد شبابه، نتيجة لصدمة مماثلة، فرأيت كصديق وفيّ له كنت ولا أزال وسأبقى، أن أكون كل أصدقائه مجتمعين، فأنتشله من امتعاضه النفسي، إلى حيث يجب أن يكون ويستمرّ الوجدان المضيء للإنسان الآتي.
وإذا كان الردّ شديداً وقاسياً وحادّاً، فذلك لأن إخلاصي لا يعرف الإلتواء، أو السلبيّة، أو المداهنة.
وطعن تعني ضرب ووخز وقدح وعاب، ولا تعني مطلقاً الغدر أو الخيانة، فأين ما يثير الاستياء ويفرض التجريح؟ وهل لي أن أتّهم شربل بما ليس فيه، بل ما هو بعيد عنه وغريب؟
تجاوز كل النتوءات يا شربل، وتخطَّ كل المقالب والمطبّات، فليس بعض الذين تفتح لهم قلبك، لهم قلوب فتنفتح.
قد نقرأ وعيوننا مغمّضة، أما نفوسنا فلا تعرف الانطفاء، وأما الفكر فسيكتب كل يوم مجداً جديداً لزمن لا يعرفه إلا الرجال.. زمن لـم يولد ببال.
صدى لبنان ـ العدد 612 ـ 6 أيلول 1988
**