عواصف 2

لقد هاجم نعيم خوري صديقه شربل بعيني مرّة واحدة طوال رحلته الأدبيّة، ولكنه عاد واعتذر منه بعد عدّة أيّام في عواصف لاحقة، بعد أن اتضح له أن شربل بعيني لـم يكن يقصده فيما كتب عن كامل المر، لأن المقال نُشر قبل سنوات في مجلّة الوفاق.

ستوب.. ستوب.. ستوب.. ثلاثاً
لقد كتبت مراراً عن شربل بعيني وإليه، وكنت في كلّ مرّة صريحاً وواضحاً ومخلصاً وأميناً على مضمون الكلمة وحرّيتها. فأنا في تربيتي وطبيعتي لا أتلوّن، ولا أحابي، ولا أرائي. وقلت فيه إنه يعطي من محبّته ومن عفويّته، لا يرجو منّة ولا يطلب شكوراً. هكذا عرفته، وهكذا فهمته منذ أن تعارفنا في ظلال هذا المغترب. ليس هنا مجال المحاسبة الذاتيّة فيما إذا كنت قد أخطأت التقدير أو أصبت. أهم من الخطأ والصواب أنني، كعادتي، انطلقت من وجداني فسجّلت موقفي.
أنا ما تغيّرت ولا تبدّلت، وما زلت أنا نفسي، أختار أصدقائي وألتزم بأخلاقيّة الصداقة وعمقها حتّى يغيّروا هم ما في نفوسهم، أو ما في بنيتها. ما غدرت. ما طعنت بالظهر، ولا دخلت الخساسة نفسي، والتفاهة أقوالي أو تصرّفاتي. ما اغتبت أحداً، ولا ألصقت به تهمة، أو أطلقت عليه وشاية. ما تجنّيت ولا تسبّبت بتعاسة. من النور تطلع كلماتي، وفي النور أزرع مشاعري. من اللهب الإنساني تنبع معاملتي، وفي القيم والمثل العليا مصبّها. وفائي يضجّ في الشرايين، ووعيي يمارس سطوته على أعصابي، لتخرج الذاكرة من مرحلة الانفعال إلى المحبّة، التي ترفض أن تتحصّن في شرنقة الاختناق، فتسعى أبداً ودائماً إلى نضارة الوعد وبهجة الصباح.
ولذلك قرأت مرّتين، وتساءلت ثلاثاً: هل يعقل أن يكون شربل بعيني قد كتب ذلك؟ لماذا تتخطّى "خصوصيّاته" الحدود، وتتجاوز العرف، وتنتقم من الحريّة بإلصاق أبشع التهم وأحطّها بشرفها وكرامتها؟ لماذا أطلق سهام توجّعاته على الجميع ـ الأصدقاء والخصوم والأعداء ـ فلـم ينجُ منها أحد، باستثناء صديقنا المشترك كامل المر؟ وهذا ما لا أحسد كامل المر عليه، أن يكون شاذّاً على الشذوذ!! وطالما أن الأمر على غموض تام، والعلّة وحدها في نفس يعقوب المجهول الهويّة والغاية والقصد.
نقرأ معاً ما يقول شربل: "عكس هذه الدنيا التافهة الوسخة التي لـم يعد بمقدورك أن تصاحب إنساناً آخر فيها، مخافة أن يطعنك بظهرك متى سنحت له الفرصة، ولا أن تغرم بمخلوق من مخلوقاتها نظراً لخساسة نفسه وشيمة الغدر التي يتّصف بها. كامل المرّ، الرجل الطيّب الذي ينعتونه بالمرارة ظلماً وعدواناً ـ من ينعته؟ـ بينما هو يكاد يذوب لشدّة حلاوته.
لا أدري، ولا أريد أن أدري، ما الّذي أغاظ شربل فأغضبه؟! هذا من شأنه وحده، من خزانته، ومن شيئيّاته التي تختصّ به دون سواه.
لكن هل أذكّر شربل الّذي يدعو إلى المحبّة، ويبشّر بالأمل، بقول إيليّا أبي ماضي:
أيّها المشتكي وما بك داء
كيف تشكو إذا غدوت عليلا
إن شرّ النفوس نفس بؤوس
تتمنى قبل الرحيل الرحيلا
.. والذي نفسه بغير جمالٍ
لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
أو هل أقول له: إن الدنيا ترد إلى يسراك ما أعطتها يمناك؟ وإن أصدقائك، من اختيارك أنت ـ أقرب إليك من صلة الدم؟
أو هل أدرك شربل أن أصدقاءه هم قرّاؤه، وقرّاء "صدى لبنان" التي فتحت له قلبها، فراح يطعنهم ويطعنها معاً؟
وهل تطرّق إلى ذهن شربل أن من يعامل السَّيِّىء بسوئه، والشرير بشرّه هو أشدّ منهما سوءاً وشرّاً. وأن الأديب ليس مرآة زمانه، بل هو الذي يخلق الزمن الجديد، وأن الشاعر لا يصوّر عصره، بل يصنعه فيدخل التاريخ؟
مرّة ثانية، لا أدري إذا كان شربل قد أساء في اختيار الأصدقاء؟ أم أنه قد أساء في اختيار مواضيعه وكلماته فخبط خبط عشواء، امتهنته الكلمة، أم أذلّها واغتالها.
إني لا أزال على محبّتي لشربل، ولذلك أخشى عليه أن يقع ضحيّة نفسه، أو فريسة سويداء الظنون.
ما تراءى لي أن يكون شربل صورة عن الإنسان الغابر، بل توسّمت فيه الرمز المضيء للإنسان الآتي.
النكرات وحدها لا يتعاطى الناس بشأنها، لا ذمّاً ولا مدحاً.
صدى لبنان ـ العدد 611 ـ 30 آب 1988
**