النمر الأسود

ألقاها عام 1990 في منزل شربل بعيني بحضور السفير لطيف أبو الحسن والمطران يوسف مرعي:
ـ1ـ
غَرِّدْ.. كَفَاكَ تَمزّقاً وتحسّرا
إِنّي أُحبّك أن تثورَ وتكفُرا
وانهضْ ففي غَليانِ فكرِكَ لوعةٌ
تشتاقُ أن تدوي وأن تتفجّرا
مرَّ الصبّاحُ وفي جفونِكَ نشوةٌ
وشَّى جوانحَها السّحابُ وزنَّرا
وأنا أراكَ على ضميرِ قصيدتي
لَهَباً وبُركاناً وفجراً أَخضَرَا
يا ضحكَة الحلم المشعّ إذا استوى
وإذا طغا، وإذا اشتكى وتضجّرا
حتّامَ صمتك والجراحُ مشاعلٌ
تأبى الكرامة أن تُذَلَّ وتُزدرَى؟
وعلى أكفّك للنضالِ حكايةٌ
نقشَ الفداءُ فصولَها وتصَوَّرا
يا شعلةَ الحلمِ المضيء حضارة
فجِّرْ دمَ الشعراءِ ضوءاً أحمرا
واكتبْ على نبضِ الترابِ ربيعه
فترى الربيع على الحروف اخضَوْضَرا
فإذا سكتَّ ففي السكوتِ حلاوةٌ
وإذا حكيت فللشذا أن يسكرا
إنّي عرفتك نجمة بظلالها
ما كان أحلى أن نطوفَ ونعبرا
فكأنّها صلوات حسّ مشرقٍ
غسلتْ نقاوتُه الزمانَ فنوَّرا
ولقد سألتُكَ أن تنيرَ دروبَنا
وعلى ندى الأحلامِ أن تتخطَّرا
لتقومَ في وجع الحجارةِ يقظةٌ
تُحيي وتلهمُ ما تدمَّرَ واهترى
قد حان أن نبني انطلاقةَ نهضةٍ
ونردُّ قيداً باطلاً مستهترا
فإلامَ يسحقنا ويطفيء وهجَنا
زمنٌ أصمٌّ.. لا يحسّ ولا يَرى؟
ملأى سنابلُنا وغنجُ كرومنا
مطرٌ يفيض على الجوارحِ عنبرا
ينصبّ في قنواتنا وهمومنا
أدباً وشعراً مبدعاً متحرِّرا
كالشمسِ تنسجُ من دلالِ جفونها
دفئاً تغلغلَ في النسيمِ وعطَّرا
ـ2ـ
كانت لنا دنيا وكان لغيرِنا
بطر على الدنيا استبدَّ بكَنْبِرَا
فيها امتشقنا الشعرَ ومضاً راعشاً
وهُمُ استباحوا في الرسالةِ متجرا
فكأنما وطن النجوم ضريبة
بالفكرِ ندمغُها انتقاصاً وافْتِرَا
وأتيت منسرح الخيالِ تهزُّنا
متسامياً، متواضعاً، مُسْتَبْشِرا
وإذا احتضنتَ مواهباً ومناقباً
ومنائر الوطنِ المشعَّة جوهرا
غدَت السّفارةُ بيتَ كل مواطنٍ
وغدا السّفير لكلّ مجدٍ منبرا
وبدتْ على الأفقِ البعيدِ سنيّة
رؤيا تعّهدها النبوغ وعمَّرا
مَنْ كان يعطي من عصارةِ قلبِهِ
كانَ الأبَرَّ.. وكان فينا الأكبرا
يغزو مواسمَنا الفراغُ ويحتفي
فَعَلامَ عن جهلٍ نلومُ البيدرا؟
ليستْ معاركنا سوى أكذوبةٍ
ركبَ الغرورُ متونَها وتجذَّرا
فالشعرُ مدرسةُ الجمالِ ووحده
يختارُ منحىً للأداء ومصدرا
تتألقُ النّجْوى على لمعاتِهِ
تنسابُ فيهِ تدفّقاً وتَوَتُّرَا
فإذا الهياكل صيفُها وشتاؤها
حلم على حلم تطوَّر وانبَرَى
هل نُنصِفُ الأدبَ الحديثَ إذا كبا
حدس وراوحَ في الهوى وتعثَّرَا؟
تمضي هواجسنا وكلّ ظلالنا
وضلالُ ما تركتْ يسيرُ القَهْقَرى
ويظلّ ناقوسُ الصبّاح مضوِّياً
ليضجَّ فيهِ جديدُه ويغيّرا
ومع الأماسي كالأريجِ يرشّنا
عبقاً يهزهزُ ما انطفى وتخدَّرا
ما همّنا انتفض الخيالُ بشعرنا
حرّاً مقفّى تارةً ومُدَوَّرا
ألمجدُ أن تُرْضِي ضميرَك والعُلى
وتُضيءُ في الإنسانِ بالاً خيِّرَا
أكتبْ على ورقِ المساءِ رياحنا
حتّى إذا انقشعَ الدّجى وتكسَّرا
بقِيَتْ رياحُ الأبجديّةِ للهُدَى
أملاً يوَشِّحُ بالضّياءِ الأَعْصُرَا
ويُطِلُّ وجهُك يا "لطيف" منارةً
سحقَتْ بوهجِ الوعدِ ليلاً أغبَرا
ومحَتْ على دربِ الغيومِ خرافةً
زرعَتْ جنوناً طاغياً ومُدمِّرَا
كي تمطرَ الدنيا على خلجاتنا
لهباً تبنَّى العُنفوانَ وفجَّرَا
ـ3ـ
يا سيّد اللاهوتِ عفوَكَ إنْ أَكُنْ
في الشِّعْرِ أُعْطِي ما لِقَيْصَرَ قيصَرَا
أوْ كانَ من قبسِ انفتاحِكَ قد سرى
مثلَ البخورِ تضوّعاً وتَجَمّرا
فتفُوحُ من عبقِ الحروفِ بحيرَةٌ
فتحَ الصّباحُ شطوطَها وتخضَّرا
أوْ كنتُ من لحمي الذبيحِ ومن دمي
أسقي وأولِم كلّ ليلٍ خنجَرا
أو كان "شربل" قد أثارَ مشاعري
كي تسترقَّ وتستفيضَ وتخطُرا
فإذا السّنى الأزليّ يشرب من دمي
ويمدّ جسراً بالضلوعِ مُسَوّرا
ويقولُ في فرحِ التراثِ مزغرِداً
يا شاعراً يشتاقُ أن يتطَوَّرَا
أنفُضْ عن الزَّمَنِ الخَجُولِ غُبارَهُ
وامسحْ صدى التاريخ يهدُرُ منذِرا
مَنْ كان يغرقُ في سعالِ دُخانِه
هيهات أن يسمو وأن يتحرَّرَا
صوت المغترب، العدد 1077، 3/5/1990
**