شكراً لك يا كلارك

ليكن للتاريخ هذا الحلم الأبيض، وليكن للحياة ذلك الحسّ الإنساني النقي.
أنا هنا واحد من جنود القلـم، وخادم في رسالة الكلمة، أسجّل لك ذاك الحلم، وأشهد بنقاوة هذا الحسّ.
شهادة تدين الظروف التي اقتلعتنا من أرض الوطن، لترشّنا في منافي الأرض.
وشهادة تتحدّى الذين ساعدوا هذه الظروف على الإستقواء، لتشتد أخطارها وتتفاقم، فتجرّ الويل والدمار على شعبنا.
وسجلاً يعلن ويؤكّد أن لا قوّة في الأرض، مهما طغت واستبدّت لا تستطيع أن تجرّد الشعر من الطاقة الإنسانيّة، أو تقتلع الشاعر من وجدانه القومي.
في مصهر الألـم يعتمد الشاعر، ويطلع الشعر لهباً إنسانيّاً، من مسؤوليّته أن لا يصوّر العالـم، أو يكون مرآة الزمن، بل أن يخلق عالماً جديداً أفضل، ويبني زماناً أرقى لا يولد إلاّ ببال العباقرة.
والذين يرون في الشعر صورة الحال، لا يرون في الشاعر إلاّ عدسة تدور على أرصفة الزمن، تلتقط الرسوم والأشكال والألوان، وتزوزق بها واجهة الأيّام.
هكذا شعر لا يصلح إلاّ لسلال النفايات. وهكذا شعراء يسقطون في حساب الحياة.
فالشعر، وإن موهبة في كثير من وجوهه، هو معاناة أشبه بمعاناة النبوّة، مهمّتها الخلق والإبداع. وهو فنّ في تخمير الطاقة الإنسانيّة لتتفجّر وتنطلق أملاً ورجاء وفعل حياة.
والشاعر ليس إزميلاً، أو مظهّراً، أو آلة تسجيل. إنه غليان هذه الطاقة الإنسانيّة، وبعثها إلى الوجود، ناراً تأكل الهذيان، ونوراً يسحق عتمة الليل.
ومجد الكلمة أن تدخل ذاكرة التاريخ، غير أن هذه الذاكرة قد تصبح عرضة للصدأ والانحلال إذا ما بقيت مجرّد مرور على خيوط الريح.
وكأنّي بك، يا كلارك، قد أدركت هذه الحقيقة، فعمدت، بتجرّد وإخلاص، إلى لملمة ونقل هذا المرور من خيوط الريح إلى خزانة الفكر، فكانت سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم"، وقد صدرت منها مؤخّراً الحلقة الرابعة.
لا أتوخّى في هذه العجالة تشريح وتحليل ما كتب في شربل وعنه، فإذا كانت المحبّة تغمر الجراح بالظلال، فإن هذه المحبّة عينها مسؤولة، ضميريّاً، عن تكوين فكرة صادقة، ورسم صورة حقيقيّة عن طبيعتها وحجمها وقيمتها. وهذه، في شربل، لـم تكن يوماً ملكاً له، خاصّاً به، مجرداً عن كونه شاعراً يتلذذ بفوح جراحه النازفة ليضمّد جراح الوطن، ويعالج نزيف الإنسان، بل كانت، ولا تزال فيه وله، لأنه بأسلوبه وطبيعته، بعفويّته ونسيجه، شاعر تخطّى الحواجز والقوالب الجامدة، وتجاوز الطقوس والتقاليد، وتحرّر من فزلكات البيان، ليغزل من أحاسيسه، وملامح نفسه، وغليان طاقته، لباساً خاصّاً، لا يعترف بمدرسة إلا مدرسة الشعر.. لأنه الشعر.
أن تحب شربل أو تكرهه، هذا لا يهم، المحبّة لا تشترط، والكره لا يدّخر إلا الباطل.
أهم من كل ذلك أن شربل بعيني موجود، وله دوره وآفاقه، وله رسالته. ولقد فرض وجوده في خطّ النار، في غليان الطاقة الإنسانية الغنيّة بالعطاءات التي طلع منها الشعر والشاعر شربل بعيني.
أنت واحد تقوم مقام مؤسسة، عملك رسولي، شكراً لك يا كلارك.
صدى لبنان ـ العدد 643 ـ 25 نيسان 1989
**