أرى وجهاً آخر.. وجهاً آخر للحياة

إلى كلارك بعيني
كأنّما أنت، والكلمة، من ميرون واحد في معموديّة واحدة. أنت تقترب من الربيع، تنصهر فيه، وهي تذوب في الضوء، تتوزّع على الكون، منارات ومشاعل.
أنت من حريق القلب، تتفجّر لهباً إنسانيّاً يعيد إلى التراب طبيعته الخالدة، وهي من ولوع النفس إشعاع يغمر وجه اللـه.
بعضنا يا كلارك، يرسم الكلمة بالحبر، وبعضنا يكتبها بعرق الجبين، وهناك من يلوّنها بالدم، وآخر يزركها في المعاناة.
أما أنت فتقطفها من النار، تترهّب لمسؤوليتها كما النسّاك في عصمة الهيكل، وتتحد في رسالتها كُلاًّ واحداً لا ينفصل عنها، كما رسوليّة بالمجد السماوي، وتستحمّ في شلاّلات ضيائها، كما العمالقة في روحانيّة الصباح، ثـم تجهد في تنسيقها وبلورتها وإنضاجها لتبقى حيّة متوهّجة، على غير انفعال، كما المؤسسة في فرد.
عَنْوِنْ هذه الصفحة. روح النشوة تتجسّد في أغاني الرياح للشجر، تنتزع من نفسها بداية الكون، وتخلص إلى فرح الأشياء التي يتجدّد وجودها فوق الوجع والجوع والعذاب، إلى الوجد الإلهي في البديهة الخلاّقة المبدعة.
لا تتوسّل الغطاء الفضّي، فالورود كالنجوم ترفض أن تستر عريها اللاذع، وضدّ كل الأمواج وكل الضباب، تربح الزمان والمكان في ذاكرة التاريخ حيث يكبر الجميع، ما عدا الذين تخلّوا عن روح الحقيقة في صناعة التاريخ.
انفض صدأ الأيّام عن أشجار الأدغال لتتوهّج فيها حروق الأجيال، ويتعالى الموت حتّى تمام الحياة. البرق الذي يتصاعد من جراح العمر يبقى أفضل من الغيمة التي تغتال وجه الأرض. والضوضاء التي تتحرّك في الأعماق خير من سكوت المومياء والقبور.
الصاعقة تزنّر القمم وتلتفّ على نفسها، فلا تخنق من النوافذ إلاّ ذهول العميان، ولا تطفىء من القباب إلاّ ظلال الشرود وتلاشي الضياع. وكلّما ارتمت مسافة الانغلاق، اتسعت مساحة التفتّح، تتحدّى مساكن الوحشة والظلام المخبّأة تحت عتبة الضلال.
غريبة كل المظاهر المكلّسة بتوابيت العار، تنقرها العصافير فلا يطلع منها إلاّ سعال العاصفة، وبكاء الهاوية المفرط في الهذيان. أوَ ليس الجنوح المهووس إلى الطليعة تذكاراً أبدياً إلى افتراس العقل واستنساخ الفكر في بال النسيان؟
ليست روح النخوة التي فيك هي التي تضيء لك الدروب، بل روح المسؤوليّة التي تشيلك وتحطّك في خطّ النار. الرغبة رافعة تاريخيّة، والاهتمام ناموس طبيعي يرمز إلى ماهية الخلق في الإنسان.
هناك يا كلارك، فئة تكتب وتقرأ بالحركات، وأخرى بالصور أو بالأصوات أو بالألوان. وهنالك فئة تتكثّف كتاباتها وقراءاتها بالتجاوبات الإرجاعية فيما بين الفكر والكلمة، بين الرؤيا الواضحة والوهم المتآكل، بين الإنسان ـ القيمة النوعيّة، والكمّ الهارب إلى الفراغ، إلى نعيم الإفراط بالذات.
هذه الفئات ليست كلّها كميّات مهملة، ليست مجرّد قطعة من الحياة تهرب من الحياة، بل هي مولد أوّلي لمنطق الوجدان يتنامى، شكلاً وإيقاعاً وأسلوباً، لما تنطوي عليه الرؤيا الأكثر توتّراً للعطاء. الكميّة المهملة العاطلة هي نقطة الصفر، لأنها مساحة الجمود الأشدّ خطراً على المخزونات النفسيّة وتطوّرها وارتقائها.
في سلسلة "شربل بعيني بأقلامهم"، وقد وصلني منها حديثاً الجزآن السادس والسابع، أرى وجهاً آخر، وجهاً أحلى للحياة، وجهاً متوغّلاً في غابات القلـم الأخضر، يرتعش مع الندى، يتخاطفه إلى سكرات الزهر وأحضان الشمس، يتجذّر فيها أبعد من ضباب العالـم، وأبهى سطوعاً على كل مشارف الزمان.
هذه السلسلة وإن تكن، على المدى الضيّق، من خصوصيّات شربل، فهي على المدى الواسع في آخر الصمت وآخر البوح، لكلّ حبّة قلم تنخفق في أقصى حدود الحياة بشوق العبور من غياهب الليل إلى وضوح النهار. إنها قضيّة الأدب وقضيّة المختصّين والمهتمّين بقضايا الأدب.
عندنا يا صديقي من يحاول أن يخطف، ومن يحاول أن يقتل، ليعيش بعد الخطف مخطوفاً، وبعد القتل قتيلاً.
أما الشاعر شربل بعيني فلا ينافس، لأنه بلغ مستوى فرض المنافسة على الآخرين. ولا يتشاوف لأنه ليس فارغاً. خزانته تضجّ بالثروة، ويداه أبداً مفتوحة، لتعطي لا لتأخذ. إنه كالسنابل الملأى التي تنحني بتواضع، بينما السنابل الفارغات رؤوسهنّ شوامخ.
يلغي ذاته أولاً من يحاول إلغاء الغير، "كالنار تأكل بعضها إن لـم تجد ما تأكله”.
كل نكرات الأرض لا يمكنها أن تتجاوز المعرفة، وكلّ آلات الزمن الساقط لا تستطيع أن تشكّل حيزاً واحداً في مساحة الحياة الممتدة على مدى الألق الفكري.
ومن الآن إلى نهاية النهايات سيبقى الشعر صوت الحبّ، وسيبقى الأدب ضمير الكون، وليس كثيراً على شربل بعيني أن يبقى صلة الوصل بين الحبّ والكون.
سلمت يداك يا كلارك، ولك منّي أطيب التمنيّات.
البيرق ـ 29 تشرين الثاني 1990
**