يا عيب الشوم

يا عصافير لبنان في مدرسة سيّدة لبنان
إذا كان لكل عام شجرة، فشجرة عام 1993 كانت لكم بكلّ ما فيها من بهجة وجمال وروعة وأناقة.
وإذا كان لكلّ موعد ذاكرة تاريخيّة، فإن مساء الثامن عشر من حزيران من هذا العام هو ذاكرة أحلى المواعيد، وأغلاها على الإطلاق.
ففي ليلة واحدة حوّلتم زمن السقوط والانهيار إلى فلكلور فكاهي لاذع، يضحك إلى حد البكاء، ويبكي إلى حدّ الندامة. وعلى حد السكين طرحتم ميوعة الموقف لينزف حتى اللهيب، فتصير الهشاشة رماداً، وأصداء في الريح تمسي اللامبالاة.
وفي "يا عيب الشوم" من تأليف وإخراج الشاعر شربل بعيني وتمثيلكم، كنتم الصوت الهادر الهادي في بريّة الجالية وأدغال الاغتراب، والجرح المضيء الذي يغسل عار الأيام عن شجر الغابات. رائعة كانت أدواركم، ولقد أدّيتموها بأمانة وثقة وشجاعة وإتقان.
حركات اليدين، نبرات الصوت، الخطى، تضرب المسرح فتزلزل المكان. نظرات العينين المتفحّصة حيناً والساخرة أحياناً. ملامح الوجه في إشراقها وفي عبوسها. المظاهر والملابسات المعجونة بالحيرة والهمّ والحلم. لكنة اللهجة واهتزاز الأوتار الصوتيّة. كلّها كانت إشارات واضحة وجريئة في إعلان الموقف والتصدّي للتيّارات المدمّرة، والإرادات المستبدة، حتى لكأنها صارت عناوين بارزة لمأساتنا الاجتماعيّة، كل واحد منّا فيها قاتل: قاتل لأنه مسؤول، وقتيل لأنه ضحيّة.
الجو مشحون بالتناقضات والأنساق والمفاهيم الغريبة أو المغلوطة. والمد الحضاري يخلق مناخات ضاغطة على مناعات، بعضها ضعيف وبعضها مفقود تماماً. الهوة سحيقة ورهيبة بين جيل البناء وجيل الخراب.
الأمراض التي يأكل بعضها بعضاً في العائلة الواحدة، أو العائلات المتعدّدة، قضايا ومشاكل البيت الذي يخلط بين الحريّة والفوضى الأخلاقيّة، بين وجع العقل وتمرّد الفضيلة، وبين الانحلال المناقبي والتزحلق على قشور النزوات والرعونات التي تنتاب عمليّة التطوّر، أو بين المحافظة على التراث الحضاري وركوب حصان الدخان لمواكبة الفجور الغرائزي. هذه وغيرها تجسّدت في تمثيلية "يا عيب الشوم"، حتى إذا ما شعرت أنك تقفز من واحدة إلى أخرى، ومن دور إلى دور، فذلك لأن هذا المسلسل الشيطاني الذي أحدث انقلاباً تدميرياً في حياتنا قد ترك بصماته ولوثاته على وجودنا. هذا المسلسل يفرض هذه القفزات المتوترة مرة، والمتوثبة مراراً، تشدّك إليها وأنت تضحك وتهزأ، وتأسف وتتمزّق، حتى لتكاد تخرج من دائرة التمثيل إلى حركة الممارسة الواقعيّة.
ومن البوكرماشين إلى سباق الخيل وطاولات الميسر، إلى المثالب التي تدمّر حياة الأفراد والجماعات، ومن صبية الأزقّة إلى روّاد العلب الحمراء، إلى الأدوات والقنوات التي تتعاطى المخدرات وتروّج تجارتها، إلى الذين يركبهم الكسل والغشّ والطيش والاحتيال، فيصيرون عالة على الضمان الاجتماعي وعلى المجتمع. ومن عمليّات اللطش والتزوير والانتحال إلى تهميش الدور الإنساني المسؤول، وتكوين البؤر الفاسدة الساعية إلى الاستغلال والرطانة والفحش. هذه النقائص التي عرضتها التمثيليّة والتي نعاني منها، لا تشوّه سمعتنا فقط، بل تعطّل وتلغي دورنا الحضاري أيضاً.
ومن ازدواجية الشخصية إلى سياسة التعهّر والتباهي الفارغ، إلى الصحافة، فالأدب، فالشعر، فمجموعة الأنا.. نيّات الحقيرة التي تتعفّن فيها حداثتنا الاغترابيّة، وتتوشّح بالحقد الوثني، وبالنقمة والحسد والوهم الباطل، تحت ستار كثيف من الإدعاء الرخيص المتأقلم مع موجات انعدام الذات الإنسانيّة لزرع ذات غريبة الأطوار والمناخات في جسم اصطناعي ملتحم بالنزعات الفرديّة والعصبيّات الملتويّة والمزيّفة. إنه وجه من وجوه الغرابات المتسللة إلى ثقافتنا العريقة، نغسله بالخلّ ونغذّيه بالزؤان، ونحسب أن الخل خمر تفرح قلب الإنسان، وأن الزؤان سنابل غنيّة بالثروة والغلال.
ومن "مشاهير" البلابل والحساسين، والغربان والشحارير، التي تضجّ بها وتضيق القاعات والمطاعم والملاهي، إلى بنات وضحايا الهوى التي طالت بيوت الفقراء ومتوسطي الحال، كما طالت البيوتات المرموقة والكبيرة، حتّى تساوت جميعها في المأساة ليصير كلّ صاحب "هاو ماتش دارلينغ" والداً لكل "ريما" الفالتة التي تفاجئه صارخة: "أنت وأمي وصّلتوني لهون.
أجمل ما في "يا عيب الشوم" التي قام بتمثيلها ثلاثمائة طالبة وطالب من الصفوف الابتدائيّة في مدرسة سيّدة لبنان، لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، أنها لـم تكتفِ بعرض شكلي لسلبيّاتنا، بل تجاوزتها إلى الردّ الإيجابي على كلّ خلل في تربيّتنا ونشأتنا، فتصبح العيوب والمساوىء والمفاسد مجرّد عاهات تصيب الأفراد، وهؤلاء الأفراد أنفسهم لا يمكنهم أن يصموا الانتشار اللبناني كلّه بما في نفوسهم من عار الصدأ والعفونة.
فإذا كان لكل عائلة قياس، فإن راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في مدرسة سيّدة لبنان في هاريس بارك هنّ عائلة لبنان المثاليّة التي لا قياس لها، والتي تغطي مساحة الكون.
أكاد أشكر الشاعر شربل بعيني وأهنّئه.. لا.. أوسع من الشكر وأكبر من التهنئة شربل. فأكتفي بتوجيه تحيّة أدبيّة.
العالـم العربي ـ العدد 31 ـ 29 حزيران 1993
**