عواصف 4

إطلالة الشاعر من إطلالة شعره. بقدر ما تكون هذه الإطلالة غنيّة، راقية، سامية، بقدر ما تكون أشبه ببصّة النار، تزتّها الشمس على قرص الأرض فتضيء وتلهب، وتفجّر من العدم ماويّة الحياة، وديناميكيّتها الخلاّقة المبدعة.
أمّا طقسيّة أن يكون الشاعر مرآة عصره، فمفهوم مات من زمان، وصارت مهمّة الشاعر أن يغني العصر باللهيب الإنساني، ويفتح له آفاقاً جديدة في صناعة التاريخ، وهكذا يكون قدر الشعر أن يكون هو ذاته الحدث التاريخي، لا أن يكون حديثاً أسطوانيّاً تفرزه المناسبات في حالات خاصّة، على أرصفة الأيّام، يتعكّز عليه العابرون أو تستلذّه شهوة الحشاشين، وتتلقّفه أيادي النشالين.
المعقول في الشعر هو الذي لا ينحصر في دائرة العقل بل يخرج ليطارد ما يشوّه العقل ويعطّله، إلى خارج دورة الحياة، فلا يبقى له أثر قادر أن يعرقل حركة الوجود وتطوّره. واللامعقول في الشعر أن يقولب، أو يترهّب في شرنقة العلم، أو الفلسفة، أو اللاهوت، فيصير لعبة السلفيّة التي تتعاطى مع الحاضر بقوننة بالغة الخطورة، في عمليّة إحالته إلى المستقبل محنّطاً بكل ما فيه من شرور ومفاسد وأباطيل. ولذا فالشعراء الذين يكتبون بدموعهم وبندى جبينهم وطول ألسنتهم ليسوا سوى أقزام يعتمرون أحذية الزمن، وينظرون إلى خيالهم، فتطير بهم المخيّلة إلى الانفعال والرجرجة والتفسّخ. أما الشعراء الذين يستوصون أوجاع الإنسان وآلامه وطموحاته، فيكتبونها باللهيب والدم، فيأتي شعرهم عالماً متجدّد القيم الحضاريّة، مستأنساً بالمستقبل، يبنيه حجراً حجراً، وإنساناً إنساناً، ليبلغ أبعاده النهضويّة فيقيم الوجود ويبطل العدم، إنهم العمالقة.
ولغة الشاعر ليست مجرّد حروف وكلمات وصور، أو بحور وتفاعيل وموازين. إنها مداميك العمارة الشعريّة، مداميك البناء الذي يسكنه الكون كلّه. هي البيادر ومواسم الغلال. هي الأرض والعطاءات التي لا تحدّ. هي البحر بأمواجه وأعاصيره، وهي الريح بهدوئها وجنونها. هي الأمل وهي خيبات الرجاء. هي العقل الذي يحاور العقل فوق المزاجيّة وفوق التسليم بالأمر الواقع. هي الليل والنهار والشمس والضباب والغيم والمطر والتراب وعيون التاريخ الذي يضجّ بالخلود. والويل للشاعر الذي يفرك دماغه بحثاً عن الكلمة، أو ينبش قبور الذاكرة سعياً وراء التعبير، لأن القصيدة ـ كل قصيدة ـ تفرض حالها، وتفرض الصورة التي تريد. وهي وحدها تختار كلماتها وتعابيرها، فتنصب على الورق أضواء لا أبهى ولا أنقى، وتنجلي المعاناة عن مناخ لا أحلى ولا أصفى، ما عدا ذلك يأتي الشعر تكلّفاً يغلب عليه التشويش والفوضى والضحالة، وتنقلب الموهبة إلى كابوس رهيب يسد الأبواب والنوافذ ومطالع الإبداع.
هذه اللغة الفريدة التي تختصّ بالشاعر ترفض عليه توسّل العطف، والسماح، والمغفرة، أو الرحمة. في التوسّل تسوّل وارتزاق وارتداد إلى المهانة. حتّى اللـه يرفض الذين يختارون العبوديّة والزندقة والفجور، ويأبى على الإنسان أن يركع إلاّ في الخشوع الإلهي. أللـه لا يتعظّم في انكسار الطرف، وفي ذلّة النفس. أللـه في الإنسان قلبه وضميره ووجدانه، الحيّ الحرّ أبداً، المتوثّب دائماً إلى الرسوليّة. إذن، هو النقاء والمجد والعزّ وتقبّل الجراح التي منها يشرق الفجر الخلاصي.
هكذا أفهم مجموعة "أللـه ونقطة زيت"، التي صدرت مؤخّراً للشاعر شربل بعيني. إنها مثل "أحد الشعانين"، فيه من دفء الإيمان وبراءة الطفولة ما يعبر عن دحرجة الصخرة وإشعاع القيامة. "أللـه ونقطة زيت" ليست اقتصاصاً من الإستغلال والابتزاز والتدجيل، بقدر ما هي ـ في شموليّتها ـ احتجاج على الصمت، على نظام التعتيم على الشرور والمثالب، وعلى تفاهة المسؤوليّة التي لا تحترم رسالتها. هذا الاحتجاج الصارخ يخضّ مستنقع اللامبالاة والذلّ ويهزّه، ليقوّضه على رؤوس المتلبّسين مظاهر الغيرة والعفّة.
شربل بعيني ـ الشعر والشّاعر ـ أحبّه كثيراً لأنه يخطىء كثيراً، ويخطىء كثيراً لأنه ينتج كثيراً، وينتج كثيراً لأنه يعمل كثيراً.
أوَليس الكثير من الخطايا أفضل بكثير من نعمة الصمت، الذي هو بحدّ ذاته رذيلة؟ وهل يسكت عن الباطل إلاّ عبيد الباطل؟
صدى لبنان ـ العدد 586 ـ 8 آذار 1988
**