مجموعة شربل بعيني (كيف أينعت السنابل؟)، الصادرة عن دار الثقافة للطباعة والنشر في سيدني عام 1987، سمعت بعض قصائدها، وقرأت بعضها الآخر في الصحف والمجلاّت المحليّة، فما الذي يدفعني إلى الكتابة عنها؟
من حقّ القارىء أن يسأل وأن يملّ، ومن حق شربل نفسه أن يتساءل: ألـم يحن الوقت ليحل نعيم خوري عن ظهري؟
إلاّ أنه من حقّي أنا أيضاً أن أعترف بأن قراءة متتابعة لقصائد مجموعة بين دفتي كتاب تعطي نكهة تختلف لوناً وتذوقاً عن قراءتها متفرّقة ومتباعدة في مدار الزمن. صحيح أنها هي ذاتها لـم تتغيّر، ولـم تتبدّل، ولـم ترتد ثوباً جديداً، إنما في تواصليتها تزيد الرغبة في القراءة من هـم القارىء، وتركّز على اهتمامه، فيزداد في العمق اكتشافها للمكنونات النفسيّة، ومصادر احتقانها وتفلّتها، هذه هي الحقيقة، فإذا تجاوزناها، تترك في ذاكرتنا نقصاً لا يعوّض.
ولذلك عمدت إلى قراءة (كيف أينعت السنابل؟) بدءاً بمقدّمة الدكتورة سمر العطّار. إن من يتناول هذه المقدّمة من الناحية الظاهرية للمضمون، يحار ويتساءل: هل هذه مقدّمة لمجموعة شعرية أم سيرة حياة الشاعر؟. هل هي موجة عواطف في زمن يابس الأحاسيس والشفاه؟ أم هي نافورة نور تتسلّط على الأيّام التي دحرجتها العتمة؟ أما من جهتي فإنني اعتبرها انقلاباً أبيض ناجحاً على الرتابة المتبعة في تقديم المؤلفات الأدبيّة والشعرية، وأتصوّر الدكتورة العطّار قد جلست تستمع إلى قصّة حياة شربل، وتسجّلها على شريط ضوئي حتّى إذا ما فرغ هو من سردها، عادت هي إلى التركيز على أهميّة ما تركته الأحداث في نفسه ليتفجّر شعراً، وسكبته في قالب لغوي سلس شيّق صحيح، لا ينتهي القارىء فيه من موسم ألـم حتى تتتابع عنده مواسم الرجاء، وتتفتّح له آفاق لـم يصفق عليها جناح خيال. وتزيد سمر على ذلك (فضولها العطّاري) المستحب على عذوبته ورقّته وإخلاصه، فتحاول أن تدخل إلى ذات شربل لتتكشّف البعد الإنساني الذي يبني عليه، وينهل من مواهبه الشعرية. هذا التحرّش البريء، على إحراجه، يسقط القشور، فيبدو الزمان، غياباً وحضوراً، بلا ضفاف ولا حدود.
أنا لا أعرف سمر العطّار، ولـم ألتقِ بها إلاّ من خلال ما كتبته، ويتبيّن لي أنها تنطلق من وجدانها، وهذه الميزة أتاحت لها أن تستوعب الحقيقة، التي من أجلها كانت مجموعة (كيف أينعت السنابل؟)، لأن مجمل قصائدها تنطلق من الأرضيّة التي صهرت بآلامها شربل بعيني، ففجّر غضبه ناراً تحرق فتأكل الزمن الرديء، ونوراً يشعّ فيستجلي جمالات المصير.
وفي رأيي أن شربل بعيني يتمتّع بشاعريّة فجّة، ولكنّها خصبة مطعّمة باللهب الإنساني، فكأن ـ عنده ـ كل الكون حلم دائـم، لا مذهبي ولا صوفي، يرشق الإنسان ويزوّده بخمير الكينونة، ويتميّز بما فيه من الإيمان والمحبّة والفداء، ومن العقليّة الأخلاقيّة الجديدة التي تصنع التاريخ، أو هو الشعر ذاته جفن مشتعل يغلّ في الأشياء المرئيّة واللامرئيّة، وينهب أسرارها ليقدّمها معرفة يتموّن منها العالـم. أو هو قلق لاهب مستعصٍ يمشي على شفير الشكّ، ويتأرجح بين اليقين والحسبان، يغمر الإنسان والوطن والأرض بالجراح التي تزهر إيماناً بالحياة. ولذلك أراه يعاني مشكلات فكريّة ليست مجرّدة أو معزولة عن الزمان والمكان، بل منبثقة من صميم الواقع الحي، وقيمته فيها أنه عبّر عن هذه المشكلات بوجهة نظر جديدة، وبالتالي ابتكر لها أساليب وأشكالاً جديدة مختلفة، قد نوافقه عليها وقد لا نوافق. الأهـمّ من الموافقة أو عدمها، أنه ما زال مكبّاً على العطاء، والمستقبل كفيل إمّا بغربلتنا نحن أو بنخله هو.
غير أنه، وهو يعالج هذه المشكلات في تركيبته الشعريّة، قد خلق لنفسه مشكلات أخرى، يصطدم بعضها بالبعض الآخر. من هذه المشكلات عجقة الكلمات والصور واللوحات، وتناقضها، وكركرتها، وتوثّبها، وتوترها على غير قاعدة وانتظام، وبدون ضابط أو مصاهرة بين الحالة النفسيّة وعواملها من جهة، وبين الرهان الجدير بالشاعر الحقيقي على استخراج ماهيته من اللهيب من جهة ثانية. وهذه الظاهرة مرضية في الشعر، ترفض من أجل الرفض، وتهدم في سبيل الهدم، وكأن الحالة السلبيّة لا يكون علاجها إلاّ بحالة سلبيّة أخرى أكثر خطورة وأشد خطراً، وهذا محظور حاول شربل أن ينقلب عليه، فوقع في شراكه.
ثـم إن التكرار المجاني، والخلط بين الفرار والمجابهة وبين الأنقياء الأحرار والأذلاّء المستصغرين قد حرم المجموعة الكثير من لمعانها الشعري، وأفرغها من بطانيتها الفكريّة، وخلخل بنيتها، حتى لتحسبنّها لقيطاً من رذاذٍ تركته غيوم عابرة على أكتاف الريف.
ولا بدّ من أن نلاحظ أننا، نحن وشربل، من هذا الزمن.. فأي منّا نصف غبيّ، أو غبيّ كامل؟ ولماذا يطرح درره على الخنازير؟ أم أننا لسنا، لا نحن ولا شربل، من الكتّاب والشعراء، بل دخلاء على رسالة الأدب والشعر الصانعة التاريخ؟
وشربل نفسه يعاني أيضاً من عقدة التجربة، وهذه المعاناة جعلته يطلّ على انفتاح أفق جديد، وحالة تهزّ الأعماق، وتشدّ الإنسان بلهفة إلى الغد، فيعبّر عن انهيار الحدود بين الإنسان والكون والقلب والعالـم. أمّا الشكل، وأمّا الصيغة الشعريّة، فليست لهما أيّة قيمة عنده. لقد انعتق من الأنماط التقليديّة، ليعطي لنفسه أنماطاً جديدة تتوافق مع نظرته الجديدة وتوقه إلى التحرّر من كل ما ورد من أشكال، لكنّه لـم يستطع أن يتحرّر كليّاً من الأوزان والقوافي، بل اختلطت لديه، وتشابكت وتنافرت حتّى بدت وكأنها سوق للمزاد العلني.
في يقيني أنه ما زال في بداية الطريق، وعليه أن تنتهي إلى زيادة في الانطلاق نحو إيقاع جديد وموسيقى داخلية صحيحة منسجمة أخّاذة، تنبعث من التحام الوحدة الفنيّة في القصيدة بمجموعها وبمختلف أجزائها.
إنه، بلا شك، يمتلك مدّاً وافراً من ناحية اللغة، لكنّه لا يمتلك ناصية العروض، وحجّته في ذلك أن الحياة في الحريّة، على ما فيها من علاّت، أفضل مما تقدّمه الأقفاص ولو ذهبيّة. غير أن الحريّة ذاتها لا تكون مطلقة وغيبيّة، بل هي ذات نظام يعترف بحريّة الآخرين، وذات مفهوم يعين مضامينها ومعاييرها ومقاييسها، وإلاّ أصبحت تشويشاً وفوضى ومدعاة للرعونة والتسيّب. وهذا ما لا يريده، أو يرضى به، أو يقصد إليه شربل بعيني.
إن أوزان الشعر تخدمه ولا تحدّ من حرّيته بحيث هي تعبيريّة، بمعنى أنها تتكيّف حسب المعنى الذي هو الأصل، ولا تتهدّم في سبيله مهما كانت الغاية. وتكيّفها هذا لا يجعلها تتنعّم بأيّة قداسة. فإذا أردنا ابتكار أشكال جديدة فعلى هذه الأشكال أن تلتزم بتفعيلة خاصّة، لا أن تكون لها، في القصيدة الواحدة أو في المقطع الواحد على الأقل، تفعيلات مختلفة تخنق الرنّة الموسيقيّة وتعطّل الفنّ الشعري.
قد يعجب البعض: لماذا أحاسب شربل على هذه الأشياء الدقيقة جداً، وقد تخطتها عوامل ومحاولات التبسيط للغة ولما يتفرّع عنها من فنون؟ ولذلك أبادر إلى القول: إني أحاسبه لأن له في نفسي منزلة خاصّة، ولأني، مع رعيل الذين تقدّموه، أنتظر منه أشياء كثيرة، وأتوسّم فيه الأحب والأفضل والأكمل.
انطلاقاً من هذا كلّه، أعتبر شربل بعيني شاعراً من شعراء الفجر. إنه من شعراء النخبة المشتعلة بوهج المرض الطليعي، لا نخبة الذين يدّعون الثقافة يوم لـم يعد لهؤلاء المثقّفين فجر يحرق عتمة.
صدى لبنان ـ العدد 547 ـ 26 أيار 1987
**
