عزيزي كلارك
تحيّة عاطرة. أشكر لك هديّتك الثـمينة، وهذه الالتفاتة الكريمة، فيما يختص برسالة الكلمة في هذا المقلب من الدنيا، وأقدّر لك هذا الجهد الكبير الذي قمت به لشاعر أحبّ وأتوسّم فيه كل الخير لوطن يجتاز أصعب وأدقّ المراحل في تاريخه الطويل، ولميدنة النهضة الأدبيّة فتلتحم التحاماً أميناً وصادقاً بمصير الوطن والإنسان فيه.
لا شكّ في أن ما قيل في شربل بعيني وشعره، في أستراليا، لـم يكن من قبيل التشجيع فحسب، بل من قبيل التقدير على حدّ سواء. ولا شكّ أيضاً أن شعر شربل سيزداد مع الأيّام نضوجاً وقوّة، وسيصبح أشمل بعداً وعمقاً ووعياً ومتانة، وخاصّة فيما يتعلّق بالفصيح منه
شربل يطلّ مع الفجر ولا يغدر به الليل فينام، بل يتوهّج ويتدفّق، فتأتي حروفه سيوفاً من نار، والذين يكتبون بالنار لا يمكن لأعصابهم أن تتقزّز في الجليد.
إنّ مهمّة الشاعر دقيقة جداً، لأنها، وإن لـم تكن تتوقّف عند الحواجز والحدود، فهي ملتزمة بقضيّة الإنسان، ومسؤولة عن تأسيس مفهوم جديد يتخطّى الزمان والمكان ليشمل العالـم بأسره، ويستوعب التاريخ الحضاري كلّه. لـم يعد الشاعر مرآة عصره، إنه صانع العصر، وهو وحده يعطي عصره هديّة مميّزة، يستشرف الأحداث، ويخلق تياراً هادراً يتجاوز القضاء والقدر، ومن يتحدَّ هذا التيار يصرعه التيّار.
عام 1951، في أحد مهرجانات الشعر في الكورة، قلت:
ليس للشعر أن تقول القوافي
أو يقول الإلهام والإيحاءُ
أكذب الشعر لا عذوبة فيه
فَلْيَكُ الصدقُ بأيدي ما نشاءُ
وقامت عليّ ضجّة حسمت دور مفتعليها بالآتي: "إذا أمكن للشاعر أن يكذب على العواطف ويثيرها، فإنه لا يمكنه أن يكذب على حقيقة الرسالة التي تصنع التاريخ، لأن التاريخ لا يقوم على العواطف بل على الحقائق التي تتجسّد فيها قيم الحق والخير والجمال.
وأزيد على ذلك اليوم، يا عزيزي كلارك، أن الذين ينتظرون منّا، نحن أهل الشعر، أن يكون إنتاجنا مجرّد مخدّرات لتخفيف الآلام والأوجاع، فإن انتظارهم سيطول لأن مسؤوليّتنا أن نهزّ مطارح الجمود، وأن نخضّ مستنقع الفكر الآسن، نقضي فيه على التنين، ليشرق الفجر وتكون النهضة في خدمة الأجيال الطالعة والتي لـم تولد بعد.
هذا إرثنا، وهذه أمانتنا، وهذا هو خطّنا. مرة ثانية أشكرك، ولك مني تمنيّاتي الطيّبة.
سيدني في 13 آب 1986
**