قرأت لك

التقيت شربل بعيني مرتين، الأولى في دار الثقافة للطباعة والنشر، وكان لقاء سريعاً يصحّ فيه القول: وكان سلامي عليه وداعاً.
وأما في الثانية، فكان لقاء مطوّلاً في "الغربة الطويلة"، فيه كثير من الفرح الداخلي، لأنه انطوى على كثير من التأملات، تصوّرها نفسيّة شاعر مرهف الحسّ، صادق الأداء، وتطلقها إلى المدى البعيد أهازيج فيها مزيج من الحب، والأمل، والحيرة، والتوتر، والغرور، والعاطفة، والفجوجيّة، والنعومة، والقسوة، والميوعة، والسخط، والألـم، والمزاجيّة، تكتمل فيه مدارج النفس لتبلغ شأواً من مرامي الطموح الإنساني.
فإذا كان الشعر خطيئة، فإن شربل بعيني مدروز بالخطايا من قمّة رأسه إلى أخامص قدميه، وحتى آخر نقطة من دمه، وأترك لغيري أن يقول إذا كان هذا شرفاً أو عاراً في الشاعر.
ويبدو لي أن جريمة شربل تكمن في أنه لا يعيد ويكرّر قراءة ما يكتب ما فيه الكفاية، بل يرسل قصيدته على سليقتها وبالسرعة التي آتته فيها، وكأنه يخاف عليها أن تهرب من بين يديه، أو أن تلتصق عفويّتها بهويّة أخرى، فلو فعل لكانت هوية القصيدة عمارة قائمة بذاتها، ولما عاودته الصورة عينها في وهلات تلي. وأما التماهي فهو موضوع آخر يتعلّق بالزاوية التي يخرج منها القارىء المطلع برأي حول الشعر وأبعاده، وما ترمي إليه هذه الأبعاد في إغناء التراث الإنساني، وتلبية مضامين قيم الحياة الراقية.
يقولون "الشعر موهبة"، ويقف النّاس عند هذا التعريف مكتوفي الأيدي، وكأن الانبهار قد أخذ منهم كلّ مأخذ. أنا لا أقر هذا التعريف، وأعتبره منحرفاً وخاطئاً، فيه من التحديد ما يجعل الشعر مقتصراً على عينة واحدة من الناس. أنا أعتبر الشعر من خصائص النفس، كل نفس، لا من مواهبها. إنه حاجة نفسيّة تختصّ بكل ذات حيّة، ولا يأتي دور الموهبة إلاّ في القدرة على صقل هذه الحاجة، وفي التعبير عن هذه الخصائص. والمواجهة الشعرية تأتي وتتمّ في عملية ترجمة هذه الخصائص خيالاً وفناً، إلهاماً وفكراً وصوراً يتعشّقها الحسّ، وتتذوّقها النفس، وفيها يكتنز العطاء ويتميّز ويسلك ميادين شتّى، وفي هذه الميدنة تتنوّع وتتكاثر التسميات: من القديم إلى الحديث، فالمطلق والملتزم، والفصيح والعامي، وهلمّ جرّاً.
ومن هذه النظرة أرى أن شربل بعيني قد عرف خصائص نفسه ، وعرف أيضاً كيف يصقل مواهبه وينمّيها للتعبير عن هذه الخصائص، فجاءت باللغة المحكيّة غنيّة بالصور والمواقف الشعريّة.
وسواء وافقت على بطانيّة الشعر في "الغربة الطويلة" أم أخذت عليها سقطات لا تستحبّ، يكفي شربل بعيني أنه يستوحي الوعي القومي، فيكتب باللهيب وبالدم، فالكتابة بالدموع لا يجيدها إلاّ الأقزام والجبناء، وأما الكتابة باللهيب وبالدم فهي صناعة الأحرار والعمالقة.
مجلّة الوفاق ـ العدد الرابع ـ شباط 1986
**