شربل بعيني يطلّ علينا، وكأنه عائد بعد غياب طويل

يا كلمِةْ الْـ ما يَوْم قرْيِتْها الْعُيُونْ
لفّي عينيْهُنْ بِالعجَبْ
كتابة الشعر أداة معرفة، وسلاح قتال. فإذا كان لا يجوز وضع النور تحت المكيال، فإنه أيضاً لا يجوز اختزان المعرفة في الضباب. وإذا كانت الكلمة هي السلاح، فإن القتال لا يمكن أن يكون في الصمت.
وقد تنقّلت المعرفة، أحياناً، من عالـم الحواس لتدخل مرحلة تأمليّة في وجدان الإنسان، تشاطره معاناته وتطلعاته، وتكثّف فيه الضوء، تعطيه رؤية جديدة، وتفتح له آفاقاً أوسع، ليستردّ وعيه ووضوحه، ويستعيد معناه، فتخرج الكلمة، في تعدّد اتجاهاتها، وكأنها حتميّة تاريخيّة في الخلق والممارسة، تضمن استمرار الحقوق والحريّات.
هكذا تصير الحريّة مداخلة حقوقيّة، ويصير الحقّ سلاح الحريّة الأمضى والأشدّ، وتكون الكلمة شعلة الحتميّة التاريخيّة التي تكون فيها الأرض والإنسان والتقاليد أبداً حاضرة، وأبداً متجدّدة.
إذن، الكلمة هي نحن، شكلاً ومضموناً. الشكل هو المظهر الحضاري للكون، والمضمون هو المحور الأهم للإنسان.
وشربل بعيني، الذي لا يعرف أن يسكت في مناسباته، إلاّ إذا كان السكوت أفضل من الكلام الصامت، في ديوانه الأخير "أحباب"، يطلّ علينا، وكأنّه يعود بعد غياب طويل، يفجّر مخزونه النفسي بصدق ووضوح، حتّى ليبدو، وكأنه والكلمة، قد خرجا من معموديّة واحدة.
عَيْب نِبْقَى هَيْك بِالْعَتْمِه
والنُّور عَمْ بِيئِنّ بِالْقِنْدِيلْ
أعداءنا الإنسان وِالكلْمِه
وأصحابنا التزوير والتّدجيل
.. عيبْ نطفي تْشِرْقُط النّجْمِه
وْعَيْب نترُك هَـ الْوَطَنْ طابِه
بْمَلْعب سْيَاسَات قَال وْقِيلْ
أحباب.. تقرأه من العنوان، من الاسم، يغني المحبّة الجامعة التي تستحقّ الكلمة، فتتوفر لها حلوة أنيقة، وتتألّق بلا مواربة ولا تصنّع أو تعهّر.
بْحِبّك.. بْحِبّك لَيْش تَا خَبِّي
لَوْلاكْ قَصّتْ جانْحِي الْغُرْبِه
.. باعوا الوطَن بالدَّيْنْ
شو ذنبنا نِحْنَا؟
.. وصار الشّعب شعبَيْنْ
صَار الْحكم حِكْمَيْنْ
وْصَفّى غْراب الْبَيْنْ
يْشَقْلِب مَطَارِحْنَا
وإذا كان الشعر العامي ينمو ويتكاثر في وسط تفتقر فيه الفصحى إلى التطوّر اللغوي، وإلى وفرة في الثقافة، وإلمام شامل في القواعد والمبادىء العامة، يخاطب الشاعر الناس بلغتهم اليوميّة، فيحلو لهم شعره، ويفهمونه، فإن شعر شربل بعيني، على عاميّته، مزيج من اليوميّة، ومن التطوّر اللغوي الزاخر بالصور والألوان والمعاني، الملتزم معطيات الثقافة وخصائصها.
دِنْيِة مَصَالِحْ ما مْنَعْرِف مِينْهَا
عَم تِلْعَب بْإِنْسَانْهَا شْيَاطِينْهَا
بْتِبْرُمْ.. بْتَبْرُمْ.. تَا تْلاقِي صَاحْبَكْ
تارِي الصّحْبِه الْيَوم نَكْرِت دِينْهَا
.. خَيّك رْفِيقَك، ما ضْرُورِي يِقْرَبَكْ
.. الإخْوِه صَدَاقَه مْشَبْشَبِه بِسْنِينْهَا
لوحاته يسكنها الزمن، ويفوح منها عبق المناسبة إلى أزمنة لـم تولد ببال. تحمل البعد التاريخي، بجمالاته وإبداعاته، وتستنبط فيه رموزاً مشعّة لأجيال في طريق التكوين.
زِرْتُو أَنا بِمشْوَارْ
وْحِوّشْت حُرِّيِه
يَا مْجَدِّد الأَشْعَارْ
بِحْرُوف مِضْوِيِّه
كِل ما يْطِلّ نْهَارْ
بْتِكْبَرْ بِـ عِينَيِّي
بعض الشعر العامي يشبه رقصة الأفعى، أو سكرة الموت. في شعر "أحباب" أصالة نفسيّة تتوسّل الإنسان بعقليته الأخلاقيّة الجديدة، وبوعي أفضل للحياة والكون.
تْعَلَّمْ وَجَعْنا الْحَرْف بِصْفُوفُو
تا صارْ يِحْكِي وْيِشْتِكي لْحَالُو
وْلِمِّن عِرِفْ مِتّحَسّنِه ظْرُوفُو
قَلّو بُو طُونِي: يا وَجَع رَنْدِحْ
صَار الْوَجَعْ يِتْمايَل قْبَالُو
...
صَفَّى الْعَالَـم كلُّو مَنْفَى
وْصَفَّى الْخَوْف
وْصَفَّى وْصَفَّى
لُعْبِه بْإِيدَيْن الشَّيْطَانْ
بهذه النفسيّة يتحوّل الموت إلى فعل حياة، وتصير الحياة عطاء دائـم العافية. الضروري فيها قليل من النسيان، والأساسي ترويض الخلايا على الاستمتاع باستمرارية التذكّر:
لِعْبُوا فِينَا
تْصَاوِيرْ افْتَكْرُونَا وْصَارُوا
يِمْحُوا الْعِينَيْنْ الْـ عَمْ تِقْشَعْ
يِلْغُوا شْفَافْ الْـ بَدَّا تِحْكِي
يْقِصُّوا الإيدَيْن الْمَرْفُوعَه
بْوِجّ الطّغْيَانْ الْـ عَمْ يِكْبَرْ
.. لكنْ نِسْيُوا إِنّو نِحْنا
من هَـ الدَّمّ الْـ عَم يِتْفَجَّرْ
مْنِقْدرْ نِخْلَقْ جِيل جْدِيدْ
وكم راق لي ألاّ يكون في "أحباب" مكافأة على موقف، أو تزامن في ردّ جميل، ولا هو قصائد فارغة من المضمون والفحوى، بل فيه (خطيئة) شاذّة محيية، في زمن يطفح بالخطايا المميتة، إذ التصق بالإنسان في قيمه ووجوده، شاطره العرق والدم والخبز، كما شاطره الكلمة، مرادفاً للنضال من أجل البقاء.
خايِف مِنْ إِيدَيْهُنْ تِطْوَلْ
.. من ناس بْتِخْلَق بِاللَّيْل
عْيُونُن مَفْتُوحَه وْمَسْطُولِه
وْعَ شْفَافُن صَرْخات الْوَيْل
...
صَابِيعَا تْفَرْفِطْ نَظْرَاتُنْ
.. شُو بدّنا فِيها لا تْرِدُّوا
فسْتانَا مْرَقَّع بِالْوَحْلْ
وْعَمْ يِعْرَقْ جِسْمَا مْطَالِيبْ
...
مْعلّم إِنِتْ.. شو صايْبَكْ زعلانْ؟
وِهموم كلّ الناّاس عَ كْتافَكْ
يللّي زْرَعِت بِقْلُوبْنا الإيمانْ
لازم يزهِّر ورد عَ شْفافَكْ
يا حاضِن الإنجيلْ وِالقرآنْ
بالحُبّ بدّنا نْزَوْزِق غلافَكْ
مِنْشان حَتَّى يِهْتِدي إِنْسَانْ
مِتْعَصّبْ.. بْقَلْبُو الْحِقدْ بُرْكَانْ
تا يْشُوفْ حالُو.. كلّ ما شافَكْ
إن أتعس الشعراء من لا يستطيع مشاطرة الآخرين.
وفي شعر "أحباب" تحدٍّ لزمن يسير القرفصاء، ويدّعي أنه في مواجهة تيّار المألوف والاعتيادي، ومعه تفاجئك، بين الحين والآخر، في بنية القصيدة، هزهزة خفيّة، لا تنمّ عن خلل، بل تكتنفها شفافيّة شعريّة، أشبه ببطاقة فضيّة مفتوحة على نوافذ الشمس، تدعوك إلى ربيع دائـم الروعة والجمال، ليس فيه مسحة كآبة أو مجافاة أو سلبي:
الْفَنّ.. تِخْلُطْ حُبّ بِشْوَيِّةْ عَذَابْ
وِتْرِشّ فَوْقُنْ كِلّ ضِحْكَاتْ الْهَوا
وِتْقِصّ مِنْ دُون خَوْف مَشْنِقِةْ الْعَذَابْ
وْتِعْزُمْ شَمِسْ عَ الأَرْض تا يْعِيشُوا سَوَا
أفما قيل: الكلام صفة المتكلّم؟
وإذا كان "أحباب"، في بعض خواصه، يفتقر إلى القلق والتوتّر والغموض الشعري المتأجّج، الذي يستدعي الكثير من التأمّل والتعمّق للكشف عن خصوصيّته ومزاياه، فإن الذي يشفع بهذا النقص هو هذه المرونة الطبيعيّة البريئة التي تعطيه نكهة مميّزة، والتي تجعل من المناسبة امتداداً أبعد من القول، وأوسع من مساحة الذكرى:
وَقْت اللِّي صَرْخِتْ "أُوف" مُوَّالَكْ
صَارِت بِبَعْضَا تْكَبِّش الأَعْلامْ
يَا مَوْطني.. تَا يْحَيّكُوا شَالَكْ
يا شربل، لتكن لبعض الشعر فساتين تتطاير مع رياح الزواريب، وليبقَ شعرك معمّداً باللهب الإنساني، فيشتعل ويحرق عتمات الدروب.
البيرق ـ العدد 212 ـ 5 حزيران 1990
**