كي يتحرّر الضوء

تحبّ كما لا يحبّ العاديّون، وتكره كما ليس للكره وجود.
متواصلٌ في العلاقة الفكرية، لأن الفكر نتاج العقل، والعقل قياديّ في كلّ الحالات.
شاذّ على التقاليد، والشّاذّ على التقاليد قاعدة للثورة عليها. ومن الشذوذ ما يمتحن الصبر، حتّى إذا أعيته الحيلة انتفض الصبر، لئلاّ يصير الشذوذ فعل ارتداد لتخريب العقل.
في درب القمر أنت، وكل شيء حولك يضحك مع مطالع الضوء. خميرة التراب ذات نكهة سحريّة تلفّ الكون، وبينك وبين المدى تتأبّط الريح خطوات الآتي من الأرض إلى السماء، على أجنحة الشعر، تقطر لهباً إنسانيّاً في زمن ينبش خطوط النار. التراب هنا هو الأصل، هو الحركة والسكون، الولادة والموت. هو كل مدلولات الحياة، المطمئنّة والقلقة، الآمنة والموجوعة، المحترقة والمنبعثة من رمادها فينيقاً جديداً يتحدّى الموت.
الذي يفتعل الضجّة يدهشه الصدى، فيعلن عصياناً مدنيّاً، وتقوم الضجّة المضادة، فيتحوّل العصيان إلى انتفاضة تقتلع السوس والعفن وتهزّ العصر. أوَ ليس الحريق دائماً من عود كبريت؟
وإذا لـم يكن مسموحاً أن تشعر، أو تحكي، أو تثور، أوَ ليس مسموحاً أن تبكي، أو تتأمّل، أو تتمنّى؟ أم أنّ المسموح فيه، في زمن النظام المتسلّط، أن تحني رأسك وتتبع بلا إحساس وبلا كرامة، أو أن تنفجر أنت وكرامتك، فتخلع صاحبك، وأنا أخلع مَنْ خلعت وأثبّت صاحبي؟
بعض التساؤل سخافة، وبعض السخافة حيرة تسعى إلى الحقيقة، فتتجذّر في التاريخ نبوءة، إن حيت تقتل، وإن قتلت تحيي. شرّ ما في صيرورتها أن تتلبّس الطهارة الماديّة، وتمارس التعهّر الروحي.
هنا في درب القمر، ينعس القمر أحياناً، فينام غطّة على حافّة الطريق، يتوسّد شيئاً من ذاته، وتخاف عليه غيمة عابرة فتعطيه، بشكل الإعارة، بعض دفئها وبعض بِلالها. وإذا كان الخوف قيداً، فكيف الخوف من الخوف تراه يكون؟
النسوة الحاملات الطيب، أو الشرّ الذي لا بدّ منه، كالعين العاشقة تشلح على كلّ مفرق سلّة ورد، وتقطف من كل نسمة شمّة عطر.
والرجال ـ ولو تعذّروا ـ يسلقون الانتصار بيض عيد في قفّة الشرق، الذي تحوّل كلّه إلى قصور من قشّ خلف عاصفة الصحراء.
والأطفال ـ على براءتهم ـ يتسابقون إلى قالب الحلوى، الذي كثيراً ما يكون قنبلة عنقوديّة في قرص الشمس، للوصول إليها، يتسلّقون شعراً صاغته الجنّ مشكاك زهر، تسحر رائحته، وتؤذي أشواكه.
ما هـم أن تدور الأرض حول الشمس، أو أن تتكمّش الشمس بحدود اللـه. تنتهي دورة وتبدأ دورة أخرى. تبدأ كلّ الأشياء وتنتهي جميعها، وتتحوّل المناجاة إلى مزامير، فلا يعود باقياً إلاّ اللـه والشمس.. والإمام عليّ، حضوراً شعرياً مميّزاً يغسل وجع العقل، ويترجم في الأحداق حلماً دائـم الحياة.
ويتقدّم الحلم على الحقيقة في تعابير وترانيم ترتّب المُثُل والقِيَم الإنسانيّة في منزلة الألوهة، وتبدو معها، ببساطة، الشفافيّة الشعريّة مؤطّرة بإطار العصبيّة التي ترى في الإنسان أسم الموجودات على الإطلاق.
وتطول رحلة الحلم في لغة عاتية أنيقة، تتقن فنّ الكلمة وفنّ الصورة، فتنجلي الحقيقة في رفاهة شعريّة، ارتفعت من الحدّ الأدنى للصناعة والتكلّف إلى الحدّ الأقصى من العفويّة والإبداع، تتكيّف مع السليقة بما تعايشه وتعانيه صحوة العقل الطالع من العاصفة، عفويّة فيها دلالة واضحة لإرضاء الوجدان الأدبي، لا لصبّ الزيت على النار وإذكاء شهوة التنين المتربّص بشواطىء الأيام.
أما لماذا كانت مناجاة علي، وهل تقرأ فيها حسّاً طاغياً لمحمد عبدو ومحسن الأمين والأمدي والعقّاد وعمر فرّوخ وجورج جرداق، أم أنها مجرّد رجاء لا يزال نائماً في بال الزمان؟
في رأيي إن شرايين الضوء المنسدّة منذ الفخّ الذي أطبق على آدم وحوّاء، ومنذ سفينة نوح وأسطورة أرارات، ومنذ الفتح حتى اليوم، تبقى هذه المناجاة للشاعر شربل بعيني دعوة للتصالح مع النفس ومع اللـه، لتتفجّر الشرايين ويتحرّر الضوء.
النهار ـ العدد 724 ـ 24 تشرين الأول 1991
**