يا رفيق الكلمة

عزيزي شربل
يا رفيق الكلمة، تحيّة عاطرة
بعد ظهر أمس تلقّيت الكتاب الّذي أرسلته لي مع إحدى تلميذاتك. أشكر لك هذا التقدير وهذا الاهتمام. وإذا كانت شهادة الصديق في محلّها، فإن شهادة الوفيّ أكثر وفاء ممّا تختزنه المشاعر، أو تصوّره الكلمات. وإذا كنت من الشاكرين لأن في هذه الجالية مَن يكتب، فإنّي أكثر شكوراً لأن في هذه الجالية نفسها مَن يقرأ ويفهم، فيفرح أو يتشكّى.
الكلمة عندي يا شربل نافذتي على الحياة، وهي اللهب الطالع من الوجدان حرفاً بركانيّاً يقيم الوجود، ويبطل العدم. وكل قول لا يستصرخ المثاليّة في الإنسان هو كميّة ظرفيّة تتلبّس الفراغ لتزيد الباطل تفشياً في الأرض، وتعطي الغيبيّة الوهميّة مساحة في النفس لا تستحقّها.
هذه الكلمة مسؤولة عن رسالة الفكر، تتوهّج من غير أن تتوتّر، وتنفتح من دون أن تتعهّر أو تستبيح، لا تخبط في عتمة الدهاليز، بل تستشرف قباب العالـم وقناطر التاريخ، لأنها تلتزم بالشأن المصيري للرسالات الخالدة. إذا انتظمت فعلى قاعدة المعرفة، وإذا أشعّت فعلى حسّ في النفس ينبض بالديمومة، ويتألّق في مطارح الشمس.
مصيبتنا يا شربل ليست في الكلمة، مظهراً وبطانيّة، متموّجة كسحر الألوهة، أو هادرة كالإعصار.
مصيبتنا في أولئك الذين يسيئون إلى الكلمة، جهلاً أم عمداً، تصوّراً أم ممارسة، في أولئك الذين إذا أمسكوا بها صار سيف النّار عموداً من ملح، وصارت لوحة الحياة الرائعة فسيفساء كاذبة في إطار من كرتون. إنهم ليسوا عالة فقط، أو متطفلين على النهضة الأدبيّة، إنهم خنجر في خاصرة، وفقاقيع صابون في عافيتها وفي مناخها. نحن لا نستوطي لنا حيطاً، ولا ننكر، على إمكانيّة في كوادرها الطبيعيّة، محاولاتها الخيّرة، نحن نسعى إلى التنشيط والتركيز والمصالحة مع الذات، لئلاّ ننقل الكفر إلى أجيال طالعة لا تستأهل فعل الكفر والكفرة.
يقولون لنا "جماعة الشعر". ما أضلّ هذا القول يا شربل. الشعر لا يقتصر على جماعة، ولا يخصّ فئة معيّنة من الناس. الشعر ملك العالـم، ملك الامتلاء الكوني الذي لا يعرف الانكفاء، ولا يكتفي بحدود يرسمها له الحكم العرفي، أو يتوقّف عند حدود جامدة تقولب المواهب بدل أن تتميّزها وتطلقها طليعيّة في الرحاب، تزرع الحق والخير والجمال، وتموّن بالعافية رموز البقاء والخلود. فلماذا نخصّص للشعر والشعراء زاوية من الأرض نحصر فيها، فلا يطاول الأبعاد المترامية، أو نقزّم الشعراء على قياسها، لتيبس فيهم الماويّة فيجاوروا القبر؟
هذا النوع من "جماعة الشعر"، أو شعر الجماعة يفتّش لنفسه عن تابوت، فتضيق عنده المجالات، وينطفىء ضوء سنابله على البيادر المزيّفة. فليحلم غيرنا بالمدارس والمناحي والاتجاهات والألوان والأشكال، وليقيموا للفكر مصانع أو صالونات أو منابر. لهذا الغير نقول: إن الشعر ملء النفس، ومن تمتلىء نفسه فله كل الكون، ولا يرضى بفتات الفكر ساقطاً عن موائد الانتحال والطلاسـم. فهل بعد ذلك تريد أن تسأل "إذا كنت مقتنعاً بما جاء في تلك المقالة؟. لك أطيب تمنيّاتي.
سيدني في 28 تشرين الأول 1986
**