موعد الدُّنيا

أُلقيتْ هذه القصيدة في 11 - 12- 1994، بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة الشاعر جرجي سليم أبي إسبر، ومنح الشاعر شربل بعيني جائزة التقدير الأولى في الأدب المهجري.
ـ1ـ
نَحنُ، مَنْ نَحْنُ، انْتِشَارٌ سرمدي
تَنتهي الدُّنْيا وَفينا تَبْتَدي
تَسْقطُ الأمجادُ إلاّ مجدنا،
يَزدهي حيناً، وحيناً يَحتَدي
كَمْ نَبِيٍّ قبلَ تاريخِ السَّما
قدْ خَلَقْناهُ بِحرفٍ أَبجَدي
منذ كانَ البدءُ، كنّا قبلهُ
في ثريّات الزّمانِ الأَبعدِ
وَإِذا الجُرْحُ عَلى السّيف انْثَنى
أَشْرقتْ في الجُرحِ دُنْيا السؤدَدِ
لا تقل لي قد مضت أيّامُنا
رُبَّ يومٍ بعدَنا لَمْ يُولَدِ
إنْ يَكُنْ في الكَوْنِ شيءٌ خالدٌ
نَحْنُ، والشّمسُ، وصوتُ الفرقدِ
ـ2ـ
يا صَديقي، هذهِ دَوْحاتُنا
دوحة تهدي، وأُخرى تهتدي
كلُّ جيلٍ، قبلها، كان لَها
منبرَ الأمسِ، ونبراسَ الغَدِ
ههنا، نحن على راحاتنا
ينبني مجدُ النّسور الرُوَّدِ
كلَّما هبَّ علينا صاعقٌ
نتلقّاهُ بصدرٍ أَمردِ
أيّ نجمٍ لـم يدغدغ صوتَهُ
خلف أحلامِ صدانا المرعدِ؟
أيّ مجدٍ لـم يكنْ منعطفاً
ومحطّاً لِسَنانا الجيّدِ؟
وإذا اعْلَولى على أفق الصّدى
نتلقّاهُ بعطفٍ أَوحدِ
تارةً بالقلبِ حتّى يَحْتمي
من خطاياهُ، وطَوراً باليدِ
كَمْ غَدٍ يَغْتَرُّ فِي غُلْوائِهِ
وَغَدٍ يَرْتابُ مِنْ غُصْنٍ نَدِي؟
كلّ عصرٍ حُلْمُهُ مُستَنزَفٌ
يَتَلَوَّى كَالضَّمِيرِ المُقعَدِ
كَمْ مَعْهَدٍ في الأرض لـم ينسجْ على
شرف الرؤيا، ونبلِ المقصِدِ
كسَّرَ الأقلامَ في دربِ الهوى
واقْتَنَى "الكوندونَ" والخُلْقَ الرَّدِي
ـ3ـ
أنتَ يا جرجي، إذا الوحيُ انطفَى
أَدَبٌ يفدى، وفِكرٌ يفتدي
يا صديقي، موعد الدُّنيا هنا
يتصبَّاكَ، فَهلْ مِن موعدِ؟
هاتِ من شِعْرِكَ صوتاً داوِياً
فِي انتفاضِ الزّمن المُستعبَدِ
وتَكَسَّرْ فَوقَ أَجْفانِ الهُدى
ثورةَ الشِّعرِ، ووحيَ المعبَدِ
أَنْتَ ما زلتَ انبعاثاً مشرقاً
لـم ينلْ منه الزَّمانُ المعتدي
علماً للحرفِ، خفّاقَ المَدى
فَوقَ طُغْيانِ الضّلالِ الأسودِ
أَنْتَ ما مُتَّ، وفوقَ المُنتهى
شاعرٌ يبني خُلودَ المَعْهدِ
يا صديقي، سلمتْ كفّاكَ، وفي
السنديان المشرئبِّ الأَخلدِ
من كفرحاتا، سليماً، عابقاً
في ثنايا العنفوان الأمجدِ
سقط التنينُ في مينائنا
وتشظَّى كانفجارِ الجُلمُدِ
قُلْ لقدموسٍ، وَكَمْ مِنْ ماردٍ
قد صنعناه.. وَكَم مِن مِرْوَدِ
ولِعشتارَ، إذا السَّيفُ نَبا
دمُنا النّارُ، فَهُبّي واشْهدي
شعرُنا موسوعةٌ مِنْ شُهُبٍ
وسوانا للقبورِ الهُمَّدِ
كلّما ضجَّ صباحٌ ومضى
في حنايانا صباحٌ يغتدي
وعلى الشَّمسِ حفرنا مقعداً
في زواياه فتونُ العسجدِ
فاسْتظلَّ الغيمُ في شُبّاكنا
فوقَ عَيْنَيْهِ بُكاءُ الموقدِ
وإذا الشمسُ على الشعر انحنتْ
صرختْ بالأرضِ: يا أرضُ اصعدي
وانقشيهِ لوحةً فضِّيَّةً
شينُها الشَّوقُ، وفي "الباءِ" ابْتَدي
شربلٌ " غَنَّى ، فَغَنَّى بلبلٌ
و"بعيني" دمعةَ الحبِّ اعْبَدِي
شاعرٌ كالأرزِ، في خلجاتهِ
تسكنُ العليا، ومنه تجتدي
روَّضَ الإعصارَ، في طلاّتهِ
فرحُ الوعدِ، وحلمُ الموعدِ
إِنْ يَكُنْ تكريمُهُ، عَنْ خُلُقٍ
فَلَهُ في الشِّعرِ خلقُ السَّيِّدِ
**