شربل بعيني في إلهي جديد عليكم

يخرج على المألوف ويتمرّد على الرتابة

شربل بعيني شاعر، والحديث عن الشاعر هو قول في الشعر، والشعر هو الحياة في المعاناة والتحدّي والخلق والإبداع. إنه لا يسعى إلى ترميم الجسور لمواصلة السير وربط المركبّات، بعضها بالبغض الآخر، فيكمل مهمة المخلوق، إنما يزيد في ضرب وتهديم الجسور المتصدّعة، ليبني جسوراً جديدة تتقاطر عليها الأزمنة بعد أن يغنيها بالألق، ويزوّدها باللهب الإنساني، فيقوم برسالة الخالق.
وإذا كان صحيحاً أن الشعر موهبة تزداد نضوجاً وعطاء وتوهّجاً في التجربة والممارسة الأمنيّة، فالأصحّ أن الألـم والمرارة هما أغنى خصائص هذه الموهبة وأكثرها انغرازاً في الأعماق وتوجهاً إلى الأبعاد التي لـم يصل إليها بال.
لتكن القصيدة ما تكون، فأوجاع المخاض التي تسبق ظهورها لا يوازيها إلاّ الفرح الداخلي الذي يتولّد بعدها، فيحسّ الشاعر أن حروفه قطرات ندى ترشها يد خفيّة على لهيب جراحه، ويشعر بلذّة غريبة تتخمّر هنيهات مرهفة، وتمتشق من ضلوعه سيفاً من نار يسلّمه إلى فارس مجهول. هذا الفارس المجهول هو التاريخ، والتاريخ وحده ينصف الشاعر بقدر ما يشترك ويساهم في صناعته.
في "إلهي جديد عليكم"، شربل شاعر من هذا الطراز، لا يتعكّز على المرايا والقناديل، ولا يغتسل بالدمع والعرق، أو يشرب ماويّة الليل ليدخل صباح الشعر فيفرح بعالمه. إنه يفهم الشعر نوراً يسحق عتمة، ويعرف أن رسالة الشعراء لا تتعمّد إلاّ باللهيب.
وإذا كنت لا أقتطع فأذكر شيئاً خاصاً من "إلهي جديد عليم"، فذلك لأن كل شيء فيه يستحقّ الذكر فيطول الحديث، ولأني أترك للقارىء حريّة أن يكتشف مكنونات النفس في شعر شربل بعيني. إن النشوة التي تساور الإنسان في اكتشاف الكنز تفوق النشوة التي تراوده في كيفيّة تصريفه.
أما إذا أردنا أن ندخل في عمليّة معادلة في شعر شربل بعيني، فإنه يتأتّى علينا أن نتجاوز أمرين: وحدة القصيدة والوزن، لأن هم شربل أن يصل إلى المعنى، وأن يصل معه القارىء إلى الغاية، ولذلك تتشقّع عنده الكلمات تلقائياً، وتتطاير أجنحتها بصورة عفويّة، فتضرب الريح لتغالب العاصفة. وإذا سعى إلى تهذيبها وضبطها فإنها تحتك وتتوتّر وتتمزّق فتنزل بجوها في كل صوب، ثـم أليس هو القائل:
قالوا: انتبه في بحور في أوزان
منشان يبقى الشعر بقصورو
قلتلّهن: شعري أنا إيمان
وسع المحيط البالع بحورو
هل نذكّر شربل أن المحيط لا يبتلع البحار بل يبصقها إلى الأطراف المترامية لتغازل الرمل والحصى.. والفراغ. ولذلك لا نجد بحراً في وسط المحيط أو في عمقه، وإنما في الجوانب التي تتدلّل على السماء والأرض.
فيما عدا ذلك، فإن لغته سهلة ممتعة ونقيّة واضحة، ألغازها رموز ثورة نفسيّة، تغلغل في المشاعر، وتداعب العقل، فتخلق بينهما مناخاً من الإلفة والفرح، وتحقّق في الوجدان نشوة الحلم المتمرّد.
هذا الشعر وهذه اللغة، هما خروج على المألوف، وتمرّد على الرتابة، وثورة على الجمود. هما زخّ جديد تتعجّق فيه الأضواء والرياح وألسنة اللهيب، فيأتي الحرف معجوناً بالانصهار، وتصير القصيدة شلاّل حياة تسبّح باسم الرب إلهاً جديداً.
فإذا قرأنا شربل بعيني توجّب علينا أن نقرأ اليرى واللايرى، وأن نتحسس همسات جفوننا، ورفّات خواطرنا، وخلجات قلوبنا، قبل أن تمتدّ إليها يد هذا الإنسان، وتسرق منّا شيئاً، فتردّنا إلى القبل والبعد في محاولة يائسة لاستعادة المسروق.
صدى لبنان ـ العدد 533 ـ 17 شباط 1987
**