الكلمة
بعض الناس يتحوّل ربيعهم العاشر إلى خريف، فيتوقّف نموّهم في ظلّ مزموم الأبعاد والطاقات.
وبعض الناس يبدأ ربيعهم ولا ينتهي أبداً، يشيب الزمن على أكتافهم، ولا تنحني رؤوسهم والقامات.
الصديق الشاعر شربل بعيني، الذي نحتفل الآن بيوبيله الفضّي، هو واحد من هذا البعض، امتشق الكلمة، واعتنق الشعر. فإذا الكلمة سيف، وإذا الشعر بركان، والموهبة شلال، يتميّز بالخصوبة، وصفاء الوجدان الأدبي.
بطريقة الصدفة تعرّفت إليه، والصدفة كاللحظة، تفلت وتمضي ليأتي غيرها. اللحظة تغيب، ولا يكتبها الزوال، لأن الغائب الحقيقي هو جسد اللحظة، وأما روحها فتبقى، وتنزرع في الذاكرة، والذي يتولّد منها يصنع طريقه إلى الحياة.
تدخل عالمه الشعري، فتراه يصوّر بلا مناقشة، ويناقش بلا مشاغبة، ويشاغب على غير مشاكسة، ويشاكس بلا فوضى أو غوغائيّة، وكعشب البحيرات يتماوج بلا رعونة. تطول بك الإقامة أو تختصر النزهة، إلاّ أنّك تنسلخ ولا تغادر، في كفّيك قوس قزح، وفي مخيلتك سحبة ضوء مترامية الآفاق.
دائـم الحضور، كلاماً وحركة وفعلاً. الكلمة رسالته وسلاحه، يغطّ قلمه في الدم أو في النار، ويبرمه في مكامن الوجع، ليغسل صدأ الأيّام عن أشجار الجراح، وهريان الموت عن جفون الريح.
في بهاء اللغة يتجاوز شربل بعيني الوهم العدمي، ولا ينبهر فتأخذه الدهشة، بل يتخطّاها إلى لحظات حليفة للشمس تتوالد وتتكاثر، ويعرف أن الشعر عمارة لا يبنيها إلاّ الشعراء الحقيقيّون، ولا يزيد من عمارها من لا سلّم عنده ولو حمل حجراً، وكذلك من بلغ أعلى السّلم ولا حجارة جديدة لديه. فالثقافة هي الحجارة، والموهبة هي السلّم، وكلتاهما ضروريّة في عمليّة البناء.
ليكن شربل بعيني حلم مجدليّا.. أو عقل مجدليّا.. ما همّ!! الصحيح أنه شاعر يجيد ألأشياء، ويتقن ترجمة موهبته، ولا يرسب إلاّ في البهلوانيّة والزحلقة وانحناءة الكرامة.
سلّمه من ضلوع مجدليّا الطالعة صوب الشمس تحت جناحي أرزة، وثقافته مادة قراءات واهتمامات وتجارب قائمة بانخراطه في ورشة الحضور الإنساني.
القصيدة
لمحٌ على الريح، أم شالٌ من الشّهُبِ
يشتاقُ فوحُ دمي سيفاً من اللَّهبِ
يمضي به زمنُ الأحلامِ، يزرعُهُ
شيئاً من الصّوتِ، أو وهماً على السّحُبِ
حسبي من الشّعرِ أني حين يصلبُني
على الزمانِ، يطوف الحبُّ في هُدُبِي
فترقُصُ الأرضُ من حولي، كأنّ بها
رهجاً من الرّعدِ، أو وهجاً من الطَّرَبِ
فيستحيلُ صليبي في الهوى قمراً
وجرحي المزرقُّ منديلاً من العُشُبِ
وفي اغتسالِ الصّدى شفتانِ، أيّهما
تغامزُ المنتهى، يا شعرُ فاستجبِ
مرّت على الشّمسِ أجيالٌ مزرزرةٌ
وخاطرُ الشّمس شلاّلٌ من الذّهبِ
تمشي العواصفُ بركاناً إذا نزفتْ
فيها الجراحُ، وتحكي النّارُ في الكُتُبِ
الرّائدون هنا، والمبدعون هنا
وما تبقّى عناوينٌ بلا أدبِ
عصافيرها في دجى البلورِ زاحلةٌ
هاضت جناحاتها بالرّيش والزّغبِ
تموج في شجر الضوضاء صورتُها
كصورةِ المسخِ، لـم يرحلْ ولـم يَؤبِ
دَرْزُ الحروف كأوهامِ الأُولى دخلوا
مستنقَعَ الموتِ في شعرٍ من الخشَبِ
الرّيحُ تُقلِقُهُ والشمسُ تُحرِقُهُ
كتافِهٍ، في لهاثِ الغيمِ منسرِبِ
ثوبُ الحرير على ألأفعى، تدنّسُهُ
وبالحريرِ اهترار الذّئبِ لـم يَثِبِ
مرّوا على الأرضِ أشباحاً مزيّفةً
في صفحةِ الضّوءِ، لـم تكبر، ولـم تذُبِ
يستفظعون صدى الماضي ويبهرهم
من الوجوهِ، فقاقيعٌ من الشّغَبِ
كأنهم من لهيب الفكرِ ما اكتنزوا
إلاّ الدّخان، وقالوا: خارِقٌ ونبي
وصدّرونا إلى المجهولِ واخترعوا
للانتشارِ شجيراتٍ من الكَذِبِ
ويصرخ الوعد، كم وشوشتني، وأنا
يا ليلُ صومعتي نهر من الخطبِ
يا أنت.. يا وطني.. ساعي البريد هنا
سئمَتْ أصابعُهُ من رنّةِ التّعَبِ
مرحى طلائعكِ.. استفتي طلائعنا
يا شعلةَ الشّرقِ.. هذا شربلٌ عربي
صبّاً أتى الكونَ، غنّاهُ وأسكرَهُ
وشمخةُ الشّعرِ زلزالٌ من الغضبِ
ليغسل الكون عن كفّيه ثرثرةً
من الدّوارِ، وأفواجاً من الصّخَبِ
جنّيةُ الشّعرِ ربّته على يدِها
وليسَ كالشّعرِ مدعاةً إلى العجبِ
غادٍ إلى قلمٍ، من قلبه، أبداً
يستلُّهُ وجعاً في حومةِ النّوَبِ
يغطّه في نزيف الضّوء منتشياً
والرّعدُ مرتجفٌ، والليلُ في هرَبِ
كلّ السيوفِ نَبَتْ.. إلاّ قصائِدُهُ
فليمتطِ الحقدَ فرسانٌ من القصَبِ
ومجدليّا التي ما زال يحفظها
صوتاً يضيء على أوتار مغتربِ
غداً يعودُ قناديلاً مشرّعةً
ميناؤهُ الحلم، يا لبنان فالتهِبِ
هذا البعيني، حداثته، وطلّتها
من مطرحِ الشّمسِ، ما انهارت ولـم تغبِ
يوبيلُه الفضيّ بالعينين نكتبهُ
حتى يشعَّ غداً يوبيلُهُ الذّهبي
يا ساكن القمر الفضيّ، مدَّ يداً
للأرضِ، وازرع صدى الأحرار، وانكتِبِ
وعداً، يطوف على الدنيال، فإن سألتْ
تجسّد الوعدُ عملاقاً على الهضبِ
نهراً من النارِ، نخب الشعر يشربه
دم الفداء.. فيحيّا ميّت العربِ
العالـم العربي ـ العدد 82 ـ 24 كانون الأول 1993
**